القضاء عند الإمام علي - الشيخ علي حسن

في الأسبوع الماضي تحدثت عن إحدى ابتكارات أمير المؤمنين علي عليه السلام على مستوى إدارة الدولة، وهو تأسيس قوة الشرطة، وأتحدث اليوم عن جانب آخر وهو المتعلق بالقضاء، فقد كانت للإمام عدة لمسات في هذا الإطار تنطلق من إيمانه العميق بالعدالة وإحقاق الحق.
المساواة أمام القانون :
أولاً : ترسيخ مبدأ المساواة بين الناس جميعاً أمام القانون، دون تأويل أو عبث، على مستوى الكلمة والفعل.. كان هذا دأب الإمام قبل أن تتوفر الظروف لكي يحكم وبعد ذلك. إذ لمَّا شكا يهودي علياً عند الخليفة عمر في خصومةٍ قال له: (يا أبا الحسن اجلس) فبدت علامات عدم الارتياح على وجه الإمام، فقال له عمر: (أكرهت يا علي أن يكون خصمك يهودياً؟ فقال علي: لا ! ولكنني غضبت لأنك لم تسوِّ بيني وبينه بأن كنيتني فقلت يا أبا الحسن).
فبحسب مفهوم العدل في القضاء عند علي عليه السلام يجب أن لا يعيش أحد المتقاضيين ـ حتى على المستوى الشعوري ـ أي إحساس خفيٍّ بالهوان نتيجة التخوف من إيثار القاضي لمتقاضٍ على آخر لأي أمر. ولذا أوصى شريحاً القاضي قائلاً: (لا تُسارّ أحداً في مجلسك). لأن في هذه المسارّة ما قد يُقلق أحد المتخاصمين بأن القاضي يدبّر أمراً ما ضده، وهو ما يفقده توازنه النفسي فيخل بالعدالة بين المتخاصمين.
بل حتى فيما هو أقل من المسارّة حيث أوصى من يجلس للقضاء بقوله: (اخفض لهم جناحَك، وألن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة، حتى لا يطمحَ الأقوياءُ في حيفك، ولا ييأس الضعفاء من عدلك).
على عهد خلافته:
وهكذا كان موقف الإمام من العدل في القضاء بعد أن اعتلى سدة الحكم، فلما خاصم نصرانياً في درع هي للإمام، وقف ـ وهو خليفة المسلمين ـ بصورة طبيعية أمام قاضي الكوفة كأي فرد من الشعب، إذ يؤمن كل الإيمان أن رئيس الدولة نفسه ليس بفوق أن يمثُل أمام القضاء، وهو أمام القضاء كأي مواطن آخر، لأن القضاء في عقيدة علي عليه السلام ليس مؤسسة تُضاف إلى سائر المؤسسات التي أنشأها الأقوياء لأكل الظعفاء، والظالمون لإرهاق المظلومين، وأصحاب السلطان لأخذ السبيل على الناس بالعدوان والتنكيل.
وكان جل ما قاله الإمام: (إنها درعي ولم أبِع ولم أهب) ولم يقل: (إنها درعي وقد سرقها)! خوفاً من أن يجرّح كرامة النصراني، فلعل شبهةً ما في البين!
لقد أكّد علي عليه السلام قولاً وفعلاً أن العدل أصلٌ لا علاقة له باختلاف الناس في أديانهم أو قومياتهم أو مراكزهم الاجتماعية أو غير ذلك، فالناس جميعاً متساوون فيه، ولذا قال: (ليكن أمرَ الناس عندك في الحق سواء).. وقال: (لا تبغوا على أهل القبلة ولا تظلموا أهل الذمة).
وإذا كان على القاضي أن يراعي هذه المساواة بهذه الحساسية، فإن على من يجعل من نفسه قاضياً سواء كنائب للأمة أو كأب بين أبنائه أو غير ذلك من المواقف، فإن عليه أن يكون منصفاً وحساساً ودقيقاً في التعامل مع القضية التي يعالجها حكماً، وفي التعامل مع الطرفين أو الأطراف المتخاصمة.
ضوابط اختيار القضاة:
ثانياً : وضع الإمام علي عدة ضوابط لاختيار القضاة الأصلح للقيام بهذه المهمة بما يضمن تحقيق العدالة ما أمكن، وهي ضوابط تهتم بأدق التفاصيل الروحية والعلمية والعقلية والأخلاقية. قال عليه السلام في عهده لمالك الأشتر: (ثم اختر للحكم بين الناس أفضلَ رعيَّتِك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تُمحّكه الخصوم ـ أي لا يصبح لجوجاً معانداً بذلك ـ ولا يتمادى في الزلة ولا تُشرف نفسُه على مطمع ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفَهم في الشبهات وآخذَهم بالحجج وأقلَّهم تبرّماً بمراجعة الخصم، وأصبرَهم على تكشّف الأمور، وأصرَمَهم عند اتّضاح الحُكم، ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء. وأولئك قليل).
وقاية من أمرين:
ثالثاً : لما كان الإمام عليه السلام يدرك أن أهم أمرين قد يُسقطان القضاة ويحرفانهم هما:
1. ضغط السلطة التنفيذية، لذا فقد ابتكر فصل تأثير السلطة التنفيذية عليهم، وهو ما يعرف في هذا الزمان بمبدأ فصل السلطات ضماناً لاستقلالية القضاء، فقال للأشتر: (وأعطِه ـ أي القاضي ـ من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيرُه من خاصتك، ليَأمن بذلك اغتيالَ الرجال له عندَك ـ أي الاغتيال المعنوي ـ فانظر في ذلك نظراً بليغاً). أي اقطع الطريق على ذوي النفوذ للتدخل في شأنهم.
2. الحاجة إلى المال ، ولذا أوصى الأشتر قائلاً: (وأفسِح له في البذل ما يُزيل علَّته وتقلّ معه حاجته إلى الناس).
التفتيش القضائي:
رابعاً : مع كل ذلك عمل الإمام عليه السلام على تأسيس حالة رقابية على القضاة أنفسهم، لأن القاضي في نهاية المطاف إنسان قد تدركه لحظة ضعف مع كل التحفظات السابقة، فقال: (ثم أكثِر تعاهدَ قَضائِه)، وهذا يشبه ما يعرف اليوم بجهاز التفتيش القضائي.
لقد عُجنت طينة علي عليه السلام بالعدالة بأرحب دلالاتها ومفرداتها، وسمت روحه إلى الحق، فكان علي مع الحق والحق مع علي.. فتجسّد العدل فيه قولاً وفعلاً، ودار معه الحق حيثما دار.. ولذا عمل على ترسيخ ذلك دون كلل أو ملل، ودون مواربة أو مهادنة، وهو الذي يعلم أن المجتمع الصالح هو المجتمع الذي تسوده العدالة الاجتماعية بأوسع معانيها وأشرف أشكالها، وأن من ركائز هذه العدالة، العدالةَ في القضاء، وإذ يقر أهل الاختصاص اليوم أن سلامة الجسم القضائي محرك مهم للتنمية، حتى قيل: (أعطني قضاء سليماً وجيداً، أعطيك تنمية دائمة) وأن الإخلال بذلك زعزعة لأهم مقوِّمات استقرار البلد فضلاً عن تقدّمه.. فإن النموذج الذي قدّمه علي(ع) يمثّل مرجعية مهمة في هذا الإطار.