خطبة الجمعة 18 رجب 1433 ـ الخطبة الأولى ـ الشيخ علي حسن : أهمية الإنصاف


ـ عَنْ جَارُودِ أَبِي الْمُنْذِرِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام يَقُولُ: (سَيِّدُ الأَعْمَالِ ثَلاثَةٌ: إِنْصَافُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ حَتَّى لا تَرْضَى بِشَيْ‏ءٍ إِلا رَضِيتَ لَهُمْ مِثْلَهُ، وَمُوَاسَاتُكَ الأَخَ فِي الْمَالِ، وَذِكْرُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. لَيْسَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ فَقَطْ، وَلَكِنْ إِذَا وَرَدَ عَلَيْكَ شَيْ‏ءٌ أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ أَخَذْتَ بِهِ، أَوْ إِذَا وَرَدَ عَلَيْكَ شَيْ‏ءٌ نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ تَرَكْتَهُ).
ـ وفي الحديث الصحيح القريب من الحديث السابق مضموناً عَنْ أَبِي أُسَامَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: (مَا ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُ بِشَيْ‏ءٍ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ خِصَالٍ ثَلاثٍ يُحْرَمُهَا؟ قِيلَ: وَمَا هُنَّ؟ قَالَ الْمُوَاسَاةُ فِي ذَاتِ‏ يَدِهِ، وَالإنْصَافُ مِنْ نَفْسِهِ، وَذِكْرُ اللَّهِ كَثِيراً، أَمَا إِنِّي لا أَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَلَكِنْ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ مَا أَحَلَّ لَهُ، وَذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ).
ـ في الأسبوع الماضي تحدثت عن أهمية الذكر اللساني، وأن أكسل الناس الصحيح الفارغ الذي لا يذكر الله بلسانه وشفتيه. وقد نبّهني أحد الإخوة الأعزاء إلى حديث سابق لي ذكرت فيه أن الذكر الأهم هو استحضار حقيقة الرقابة الإلهية، وأنه فهم من تلك الخطبة عدم أهمية الذكر اللساني.
ـ وما أريد التنبيه عليه هنا إزالةً للبس أنني لم أعنِ حينذاك الانتقاص من أهمية الذكر اللساني، والدفع نحو إهماله، بل عنيت الاهتمام بصورة أكبر بمسألة الإحساس بالرقابة الإلهية، والتعبير في الحديث الأول واضح الدلالة على ذلك: (لَيْسَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ فَقَطْ، وَلَكِنْ إِذَا وَرَدَ عَلَيْكَ شَيْ‏ءٌ أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ أَخَذْتَ بِهِ أَوْ إِذَا وَرَدَ عَلَيْكَ شَيْ‏ءٌ نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ تَرَكْتَهُ). وهذا الإحساس الدائم بالرقابة الإلهية هو الابتلاء الأصعب ومن أهم الأعمال وفق تعبير الإمام(ع).
ـ النقطة الثانية التي أريد الحديث عنها هي مسألة الإنصاف، وأتوقف عند مثال واحد منها، فحينما تسافر إلى بلد آخر وتجدهم يعاملونك بكل تقدير واحترام، لا لما تملكه من مال، ولا لحاجتهم إليك كسائح، بل تقديراً لإنسانيتك فقط، حينها تشعر بالارتياح العميق وتمتدح ذلك البلد حيثما حللت.
ـ هذا الإحساس يستدعي منك الإنصاف وأنت تعامل من يفد إلى وطنك، بغض النظر عن جنسيته وقوميته ولونه ومستواه المادي، الإنصاف المتمثل في احترام إنسانيته في غربته كما أحببت أن يحترم الآخرون إنسانيتك في غربتك.
ـ وقد أكد الإمام الصادق(ع) على صعوبة الأمر حتى اعتبر أن المؤمن قد يخفق في ذلك الابتلاء وهو ما عبّر عنه بكلمة: (يُحْرَمُهَا). والأوضح منه قول النبي الأكرم(ص): (ثلاثة لا تطيقها هذه الأمة): فهي صعبة وبالتالي تحتاج إلى تربية وجهاد للنفس (المواساةُ للأخ في ماله، وإنصافُ الناس من نفسه، وذِكرُ الله على كل حال).
ـ أما سبب الإخفاق فقد يرجع إلى:
1. العمل بظاهر التدين وإهمال انعكاساته، والتمسك بصورة العبادات والابتعاد عن روحها.
2. كما قد يرجع إلى حالة من الشعور بالتميز على الآخرين وبالتالي الابتلاء بالعجب واحتقار الغير.
3. وساوس الشيطان حين يعجز عن التأثير في العقيدة والصلاة وغيرها، فيعمد إلى الإخلال بجوانب من شخصية المؤمن العامة.
ـ أما تجاوز هذا الابتلاء بنجاح فيكفل للمؤمن نتيجة عظيمة ففي الصحيح عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: (ثَلاثَةٌ هُمْ أَقْرَبُ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ الْحِسَابِ: رَجُلٌ لَمْ تَدْعُهُ قُدْرَةٌ فِي حَالِ غَضَبِهِ إِلَى أَنْ يَحِيفَ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدِهِ، وَرَجُلٌ مَشَى بَيْنَ اثْنَيْنِ فَلَمْ يَمِلْ مَعَ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ بِشَعِيرَةٍ، وَرَجُلٌ قَالَ بِالْحَقِّ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ).
ـ وأخيراً أقول: إذا كان غيرنا قد نجحوا في تربية أنفسهم وتنمية قيم مجتمعاتهم في هذا الإطار، ودون دافع ديني أو أخروي، فإننا نمتلك من حيث المبدأ مقومات عديدة للنجاح، ولكنها في نهاية المطاف من مفردات جهاد النفس، وهو الجهاد الأكبر الذي يحتاج إلى تربية ومعاناة.