شُرطة الخميس - الشيخ علي حسن

تطالعنا سيرة أمير المؤمنين علي عليه السلام بخبر تشكيله قوة عسكرية من ستة آلاف عنصر باسم (شرطة الخميس). وإذا عرفنا أن كلمة الخميس تعني الجيش، إذ كان يقسَّم إلى خمسة أقسام، نعرف لماذا سموا شرطة الخميس من خلال الخبر التالي إذ روي أن الأصبغ بن نباتة (وكان على رأس هذه القوة في معركة صفين) سئل: (كيف سُميتم شرطة الخميس يا أصبغ؟ فقال: إنا ضمنَّا له الذبح، وضمن لنا الفتح). أي أنهم بايعوه على الموت والاستبسال في طريق تحقيق مهامهم المحددة.
مميزات شرطة الخميس:
وكانت لهذه القوة العسكرية مميزات:
1. في المعاجم اللغوية: (الشُّرْطةُ أو الشُّرَطة: أوّلُ كتيبة تحضر الحرب وخيار جند السلطان ونخبة أصحابه الذين يقدمهم على غيرهم من جنده) فهي القوة الفدائية التي تستبسل من أجل تحقيق النصر ضد العدو.
2. كانت تضم خيرة وصفوة الناس في زمانه إيماناً وتقوى وعملاً. فمن الصحابة ضمّت مثلاً: (المقداد وعمار وقيس بن سعد بن عبادة، وسهل وعثمان ابني حنيف الأنصاريين). ومن غيرهم ضمّت مثلاً: (الأصبغ بن نباتة، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وميثم التمار، ورشيد الهجري، وحبيب بن مظاهر الأسدي، ومحمد بن أبي بكر، والحارث الهمداني). حتى أنه إذا ذُكر أن فلاناً كان من شرطة الخميس كفاه ذلك مدحاً، فتقرأ مثلاً قولهم في سليم بن قيس: (كان من شرطة الخميس، وبذلك يُعلم جلالة سليم).
3. في ذات الوقت الذي كانت تؤدي فيه مهامها العسكرية على جبهات القتال، أدت مهاماً داخلية ضمن المجتمع الذي كان يدير الإمام شؤونه، بصورة تقرب من دور الشرطة في هذا الزمان. وفي المصادر أكثر من خبر يؤيد هذا المعنى، ومنها الخبر التالي المروي عن الإمام محمد الباقر عليه السلام: (إن شاباً قال لأمير المؤمنين عليه السلام: إن هؤلاء النفر خرجوا بأبي معهم في السفر، فرجعوا ولم يرجع أبي، فسألتهم عنه فقالوا: مات. فسألتهم عن ماله فقالوا: ما ترك مالاً، فقدمتهم إلى شريح فاستحلفهم وقد علمت أن أبي خرج ومعه مال كثير، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: والله لأحكمن بينهم بحُكمٍ ما حكَم به خلقٌ قبلي إلا داود النبي عليه السلام. يا قنبر، ادعُ لي شرطة الخميس فدعاهم، فوكَّل بكل رجل منهم رجلاً من الشرطة، ثم نظر إلى وجوهم فقال: ماذا تقولون؟ تقولون إني لا أعلم ما صنعتم بأبي هذا الفتى؟ إني إذاً لجاهل. ثم قال: فرقوهم وغطوا رؤوسهم. قال: ففرق بينهم وأقيم كل رجل منهم إلى أسطوانة من أساطين المسجد ورؤوسهم مغطاة بثيابهم. ثم دعا بعبيد الله بن أبي رافع كاتبه فقال: هات صحيفة ودواة، وجلس أمير المؤمنين عليه السلام في مجلس القضاء، وجلس الناس إليه، فقال لهم: إذا أنا كبّرت فكبّروا. ثم قال للناس: اخرجوا. ثم دعا بواحد منهم فأجلسه بين يديه وكشف عن وجهه. ثم قال لعبيد الله: اكتب إقراره وما يقول، ثم أقبل عليه بالسؤال فقال له أميرالمؤمنين عليه السلام: في أي يوم خرجتم من منازلكم وأبو هذا الفتى معكم؟ فقال الرجل: في يوم كذا وكذا. فقال: وفي أي شهر؟ فقال: في شهر كذا وكذا، قال: في أي سنة؟ فقال: في سنة كذا وكذا. فقال: وإلى أين بلغتم في سفركم حتى مات أبو هذا الفتى؟ قال: إلى موضع كذا وكذا. قال: وفي منزل مَن مات؟ قال: في منزل فلان ابن فلان. قال: وما كان مرضه؟ قال: كذا وكذا. قال: وكم يوماً مرض؟ قال: كذا وكذا. قال: ففي أي يوم مات؟ ومن غسله؟ ومن كفنه؟ وبما كفنتموه؟ ومن صلى عليه؟ ومن نزل قبره؟ فلما سأله عن جميع ما يريد، كبّر أمير المؤمنين عليه السلام وكبّر الناس جميعاً، فارتاب أولئك الباقون، ولم يشكّوا أن صاحبهم قد أقر عليهم وعلى نفسه، فأمر أن يُغطّى رأسُه ويُنطلق به إلى السجن. ثم دعا بآخر فأجلسه بين يديه وكشف عن وجهه وقال: كلا، زعمتم أني لا أعلم ما صنعتم؟ فقال: يا أمير المؤمنين ما أنا إلا واحد من القوم، ولقد كنت كارهاً لقتله، فأقر. ثم دعا بواحد بعدُ، كلُّهم يقر بالقتل وأخذ المال. ثم رد الذي كان أمر به إلى السجن فأقر أيضاً. فألزمهم المال والدم. ثم ذكر حكم داود عليه السلام بمثل ذلك).
محاسبة دقيقة وحاسمة:
هذه واحدة من المشاهد التي تبيّن الدور الداخلي لشرطة الخميس. وبذلك ـ كما تذكر المصادر التاريخية ـ أنه تم تنظيم جهاز الشرطة من قبل الإمام عليه السلام، وتبلورت وظيفة (صاحب الشرطة) في خلافته ثم تطورت تدريجياً فيما بعده، واحتفظت بعنوان (الشرطة). المشهد الآخر الذي تطالعنا به النصوص هي المحاسبة الدقيقة والحاسمة لمن يقوم بهذه المسؤولية فيما لو كان هو مصدر الخلل في المجتمع، ففي الخبر أنه: (بعث علي عليه السلام إلى لبيد بن عطارد التميمي ليجاء به، فمر بمجلس مِن مجالس بني أسد، وفيه نعيم بن دجاجة، فقام نعيم فخلّص الرجل، فأتوا أمير المؤمنين علياً عليه السلام فقالوا: أخذنا الرجل فمررنا به على نعيم بن دجاجة فخلّصه، وكان نعيم من شُرطة الخميس، فقال: عليَّ بنعيم، فأمر به أن يضرب ضرباً مبرِّحاً، فلما ولُّوا به قال: يا أمير المؤمنين إن المقام معك لذل وإن فراقك لكفر، قال: إنه لكذلك؟ قال: نعم، قال خلوا سبيله).
ونلاحظ هنا الثمن الذي يدفعه الإمام عليه السلام بمحاسبته لهذا المخالف، والذي قد يصل إلى حد التمرد واللحوق بالأعداء كما حصل في مواقع أخرى، وقد يجر الأمر إلى تمرد عشيرة ذلك الرجل.. ولكن الإمام لا يتهاون في ذلك لأن المسألة تكمن في أنّه لو فسد مَن يُفترض به أن يكون هو مصدر الأمن والطمأنينة والمحافظ عليهما، فكيف يمكن تحقيق الأمن في المجتمع؟ وكقول المسيح عليه السلام: (لو فسد الملح فبماذا يُملَّح؟).
ظلال الصورة المشرقة:
هذه الصورة التاريخية المشرقة تُلقي بظلالها على الوضع القائم في جهاز الشرطة عندنا في الكويت، إذ يلاحظ في الفترة الماضية ومن خلال ما تناقلته وسائل الإعلام تكرر ارتكاب بعض رجال الأمن لجرائم يَندَى لها الجبين، يضاف إليها تقرير وزارة الخارجية الأمريكية المنشور في الصحف قبل أيام حول حقوق الإنسان في الكويت وتضمّن إشارات إلى وجود مثل هذه الأمور، وكلها تؤكد ضرورة إعادة النظر في كل النظام القائم في هذا الجهاز الحساس وذلك من خلال النقاط التالية:
1. المراجعة الشاملة لسلوكيات الأفراد والضباط توعيةً ومراقبةً ومحاسبة.
2. الاهتمام بالانضباط العسكري بين المنتسبين لهذا السلك، وهو ما يشهد حالياً انفلاتاً واضحاً لكل مراقب.
3. تغليظ العقوبات على العسكريين المخالفين، ردعاً لكل من تسوّل له نفسه منهم باستغلال هذا الموقع الوظيفي لإشباع رغباته الدنيئة.
4. عدم إفساح المجال للوساطات في تغيير مجرى القانون. ولعل من أسوأ ما ابتلي به هذا الجهاز هو الاستجابة لضغوطات بعض المسؤولين ونواب الأمة ممن يسارعون للتدخل ضمن حسابات مصلحية معينة لتجاوز القانون، أو تحويل التهمة من مرتكبها إلى شخص آخر، أو التلاعب في المحاضر بصورة يُلغي القضية من أصلها، وغير ذلك من الأمور غير الخافية، والتي تمتلئ بها الصحف المحلية يومياً، وكل ذلك يجرّئ العسكريين المخالفين للاستمرار في غيّهم، فمَن أمن العقوبة أساء الأدب.
الصورة الحقيقية للشرطة:
أخيراً أقول إن دور العسكريين المنتسبين إلى سلك الداخلية في المجتمعات التي تحفظ حقوق الإنسان وتراعيها هو دور المحافظ على الأمن، الساهر على خدمة الشعب، لا صورة العسكري الذي تدفعه البدلة والسيارة العسكرية والسلاح الذي يحمله للاستكبار على المواطنين والوافدين، أو تزرع في نفسه حالة من الشعور بالفوقية ليزرع الرعب في قلوب الناس دون أن يكونوا قد ارتكبوا مخالفةً ما، أو أن يوظّفها لإهانة الناس وتفريغ عقده الشخصية.. إن الصورة المطلوب تحقيقها هي صورة العسكري الذي إذا رآه المواطن أو الوافد شعر تلقائياً بالراحة والطمأنينة والأمن.. ولذا قال أمير المؤمنين علي عليه السلام في كتابه لمالك الأشتر لما ولاه مصر: (فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لله وَلِرَسُولِهِ ولإمَامِكَ، وَأَنْقَاهُمْ جَيْباً، وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ، وَيَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ، وَيَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ، وَيَنْبُو عَلَى الأقْوِيَاءِ، وَمِمَّنْ لاَ يُثِيرُهُ الْعُنْفُ، وَلاَ يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ).