الإسلاميّون وتوزّع الأدوار القسم الثاني جعفر فضل الله

قد يتساءل الكثيرون: كيف يُمكن أن نفسح في المجال أمام اختلاف الفكر ليأخذ مداه في الساحة؟! والحال أنّ الاختلاف ـ بطبيعته ـ يمثّل حالة تنافر بين الأفراد، وبين الجماعات، ما ينعكس على تماسك الجماعة أو المجتمع؛ فنفترض ـ بالتالي ـ أنّ الخيار الثاني (أن نحاول أن نجمّد أيّ حالة تداول للاختلافات فيما بيننا) أقلّ الخيارات خطورة، ولاسيّما في الظروف التي تمرّ فيها الأمّة، أو المجتمع، أو الجماعة، بتحدّيات تهدّد وجودها.
وتزداد المسألة إلحاحاً على المستوى النفسي ليرفض الفرد أو الجماعة أو الحركة، احتضان حرّية الفكر في الهواء الطلق، وفي وسائل الإعلام، وفي حركة النشر، عندما يكون في المقابل أطرافٌ تسعى لاستغلال ذلك لإثارة الرأي العامّ ضدّها، في حركة تسجيل النقاط بين الفرق المتنازعة أو المتصارعة أو المختلفة. ولذلك نجد أنّ التعبير الشائع: لا تطلقوا هذا النوع من الأفكار، لا تتحدّثوا بهذه الطريقة، فيستغلّها الآخرون لمصلحة حالة الصراع والنزاع وما إلى ذلك!.
ومع أنّ ذلك يعود بنا إلى النقطة التي كنّا بصدد التأكيد عليها، وهي أنّ الفرد المسلم، والجماعة المُسلمة، همُّها في تحرّي الحقّ، من أيّ مصدرٍ كان؛ ولذا ورد عندنا لزوم طلب العلم "ولو في الصين"، و"الحكمة ضالّة المؤمن؛ أنّى وجدها أخذها"، وقول الله ماثلٌ دوماً: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) المائدة: من الآية8، وما إلى ذلك من أدبيّات تُخرج المُسلم من ذاتيّاته إلى فضاء الحقّ والعدل حتّى لو كان ذلك على نفسه أو الوالدين والأقربين.
ومع ذلك نقول: التمييز ضروري بين الخطّ الفكري والخطّ التنظيمي؛ ذلك أنّ الحرّية الفكريّة لا بدّ أن تنضبط في إطار القيم الكُبرى التي تمثّل أساسيّات وقواعد الحركة لدى الفرد المسلم والجماعة المسلمة، بحيث يتمّ تحديد الخطوط الحُمر التي يقف عندها أيّ سلوك، سواء في إطلاق المواقف أو في أسلوب التعبير.
ومن خلال ذلك نستطيع أن نطلق المبدأ الذي يعتبر أنّ مجال الحرّية الفكريّة لا ينبغي أن يُحدّ في حركة النظام العامّ؛ لأنّ قيم النظام العامّ، ومواجهة الأخطار، إنّما تتحكّم في أسلوب التعبير في الظروف الآنيّة المحدودة، ولا يُمكن أن تُفضي إلى أن نبرّر لأنفسنا كبت الفكر أن يتحرّك، والعقل أن يُبدع، والنقد أن يأخذ مداه في تحرّي الحقّ في الفكر، والصواب في الموقف، والرشد في الحركة.
ولذلك وجدنا أنّه في غمرة احتدام الأفكار، وتعالي أصوات النقد في قلب المجتمع الإسلامي، وعندما كانت تقف القيادات الواعية أمام الظرف الذي يُمكن أن تُستغلّ فيه اختلافاتهم الفكريّة مع قيادات أخرى، أو حركات أخرى، لصالح ضرب القيادة الإسلاميّة، أو الحركة الإسلاميّة، كانت تلك القيادات تنبري للإعلان عن الموقف الواضح الذي يضع اختلاف الفكر في حساب، والمواقف الإستراتيجية التي تصبّ في ضرورة التعاون وحماية الكيان الإسلامي والحركة الإسلاميّة في خطوطها العامّة في حسابٍ آخر، ممّا يمنع أيّ حالة استغلال.
وبعبارة أخرى: إنّ حركة الفكر، عندما تختلف مع الآخر، إنّما تستهدف تقوية البنية الذاتيّة الداخلية للواقع الإسلامي، وللحركة الإسلاميّة، وللفكر الإسلامي بعامّة، ولا تنطلق من حالة ذاتية ينطلق فيها المفكّر أو الناقد، ليسجّل نقطة لحساب حساسيّاته الضيّقة، أو لمصلحة غير الإسلاميّين الذين يتربّصون بالواقع الإسلاميّ الدوائر؛ وهكذا ينبغي أن يكون. وعند ذلك نخلص إلى أنّ هناك نوعين من التوجّهات التي ينبغي أن يُعنى بها الإسلاميّون فيما يخصّ الحركتين الفكريّة والتنظيمية:
الأوّل: توزّع الأدوار في حركة الفكر، بحيث يتمّ المحافظة على مناخ من حرّية الفكر في إطار الحالة الإسلاميّة، أو في داخل الحركة الإسلاميّة نفسها، من دون أن يعني ذلك انفلات الحريّة من أيّة معايير، بل أن تبقى منضبطة في إطار موازين الحقّ الذي ينشده الإنسان في بناء قناعاته، بحيث نضمن ـ من خلال ذلك ـ استمرار حركة المجتمع في إنتاج الفكر وتقويّة البنية الداخليّة الذاتيّة من خلال التبنّي الدائم للفكر الأقوى بُرهاناً ودليلاً، أي الأقوى في البنية الذاتية لا في المقوِّيات الخارجيّة على طريقة التسويق الإعلاني والإعلامي.
الثاني: تحديد قواعد الانتظام العامّ، الذي يُبقي فيه المجتمع عينه على الاستراتيجيات وتوازن الحركة تجاهها، بحيث تكون حركة المسلم في إطار المجتمع تتحرّك وفق الأولويّات التي يفرضه الواقع والظرف الموضوعي، فلا يتحرّك ليفرّط بوحدة الجماعة وتماسكها، في الوقت الذي يُدرك فيه أنّ أهمّ عنصر من عناصر التماسك هو أن تكون بنيتها الداخليّة قويّة، عبر مواكبة الحركة بالفكر القويّ والطرح المتين.
ربّما يكفينا في المقام أن نلتفت إلى الطريقة التي واكب فيها القرآن حركة الرسالة الإسلاميّة؛ فكان يحرّك النقد لكلّ حركة المسلمين، في الوقت الذي لا يسمح فيه بأن يضعف الموقف أمام تحدّيات المُشركين وتربّصهم بالواقع الإسلاميّ شرّاً؛ لأنّ لإدارة الصراع الخارجي أدواته المناسبة، بينما يستهدف الفكر تقوية البنية الداخليّة للمسلمين ليكون صراعُهُم أفعل، ومواجهتهم للتحدّيات أقوى.