خطبة الجمعة 11 رجب 1433 ـ الخطبة الثانية ـ الشيخ علي حسن : القضاء عند الإمام علي


ـ في الأسبوع الماضي تحدثت عن إحدى ابتكارات أمير المؤمنين علي(ع) على مستوى إدارة الدولة، وهو تأسيس قوة الشرطة، وأتحدث اليوم عن جانب آخر وهو المتعلق بالقضاء، فقد كانت للإمام عدة لمسات في هذا الإطار تنطلق من إيمانه العميق بالعدالة وإحقاق الحق.
ـ أولاً : ترسيخ مبدأ المساواة بين الناس جميعاً أمام القانون، دون تأويل أو عبث، على مستوى الكلمة والفعل.. كان هذا دأب الإمام قبل أن تتوفر الظروف لكي يحكم وبعد ذلك. إذ لمَّا شكا يهودي علياً عند الخليفة عمر في خصومةٍ قال الخليفة: (يا أبا الحسن اجلس) فبدت علامات عدم الارتياح على وجه الإمام، فقال له عمر: (أكرهت يا علي أن يكون خصمك يهوديا؟ فقال علي: لا ! ولكنني غضبت لأنك لم تسوِّ بيني وبينه بأن كنيتني فقلت يا أبا الحسن).
ـ فبحسب مفهوم العدل في القضاء عند علي(ع) يجب أن لا يعيش أحد المتقاضيين ـ حتى على المستوى الشعوري ـ أي إحساس خفي بالهوان نتيجة التخوف من إيثار القاضي لإنسان على آخر لأي أمر. ولذا أوصى شريحاً القاضي قائلاً: (لا تُسارّ أحداً في مجلسك). لأن في هذه المسارّة ما قد يُقلق أحد المتخاصمين بأن القاضي يدبّر أمراً ما ضده، وهو ما يفقده توازنه النفسي فيخل بالعدالة بين المتخاصمين.
ـ بل حتى فيما هو أقل من المسارّة حيث أوصى من يجلس للقضاء: (اخفض لهم جناحَك، وألن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة، حتى لا يطمحَ الأقوياءُ في حيفك، ولا
ييأس الضعفاء من عدلك).
ـ وهكذا كان موقف الإمام من العدل في القضاء بعد أن اعتلى سدة الحكم، فلما خاصمه نصراني في درع هي للإمام، وقف ـ وهو خليفة المسلمين ـ بصورة طبيعية أمام قاضي الكوفة كأي فرد من الشعب، ورئيس الدولة نفسه ليس بفوق أن يمثُل أمام القضاء، وهو أمام القضاء كأي مواطن آخر، لأن القضاء في عقيدة علي(ع) ليس مؤسسة تُضاف إلى سائر المؤسسات التي أنشأها الأقوياء لأكل الظعفاء، والظالمون لإرهاق المظلومين، وأصحاب السلطان لأخذ السبيل على الناس بالعدوان والتنكيل.
ـ وكان جل ما قاله الإمام: (إنها درعي ولم أبِع ولم أهب) ولم يقل: (إنها درعي وقد سرقها)! خوفاً من أن يجرّح كرامة اليهودي، فلعل شبهةً ما في البين.
ـ بلقد أكّد علي(ع) قولاً وفعلاً أن العدل أصلٌ لا علاقة له باختلاف الناس في أديانهم أو قومياتهم أو مراكزهم الاجتماعية أو غير ذلك، فالناس جميعاً متساوون فيه، ولذا قال: (ليكن أمرَ الناس عندك في الحق سواء).. وقال: (لا تبغوا على أهل القبلة ولا تظلموا أهل الذمة).
ـ ثانياً : وضع ضوابط لاختيار القضاة الأصلح للقيام بهذه المهمة بما يضمن تحقيق العدالة ما أمكن، وهي ضوابط تهتم بأدق التفاصيل الروحية والعلمية والعقلية والأخلاقية. قال(ع) في عهده لمالك الأشتر: (ثم اختر للحكم بين الناس أفضلَ رعيَّتِك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تُمحكه الخوم ولا يتمادى في الزلة ولا تُشرف نفسُه على مطمع ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفَهم في الشبهات وآخذَهم بالحجج وأقلَّهم تبرّماً بمراجعة الخصم، وأصبرَهم على تكشّف الأمور، وأصرَمَهم عند اتّضاح الحُكم، ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء. وأولئك قليل).
ـ ثالثاً : لما كان الإمام عليه السلام يدرك أن أهم أمرين قد يُسقطان القضاة ويحرفانهم هو ضغط السلطة التنفيذية والحاجة إلى المال، لذا فقد ابتكر فصل تأثير السلطة التنفيذية عليهم، وهو ما يعرف في هذا الزمان بمبدأ فصل السلطات ضماناً لاستقلالية القضاء، فقال للأشتر: (وأعطِه ـ أي القاضي ـ من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيرُه من خاصتك، ليَأمن بذلك اغتيالَ الرجال له عندَك ـ أي الاغتيال المعنوي ـ فانظر في ذلك نظراً بليغاً). أي اقطع الطريق على ذوي النفوذ للتدخل في شأنهم.
ـ ومن جهة أخرى أوصاه قائلاً: (وأفسِح له في البذل ما يُزيل علَّته وتقلّ معه حاجته إلى الناس).
ـ رابعاً : مع كل ذلك عمل الإمام عليه السلام على تأسيس حالة رقابية على القضاة أنفسهم، لأن القاضي في نهاية المطاف إنسان قد تدركه لحظة ضعف مع كل التحفظات السابقة، فقال: (ثم أكثِر تعاهدَ قَضائِه)، وهذا يشبه ما يعرف اليوم بجهاز التفتيش القضائي، وهذا ابتكار آخر للإمام(ع) في هذا الإطار.
ـ لقد عُجنت طينة علي(ع) بالعدالة بأرحب دلالاتها ومفرداتها، وسمت روحه إلى الحق فكان علي مع الحق والحق مع علي.. فتجسّد العدل فيه قولاً وفعلاً، ودار معه الحق حيثما حل.. ولذا عمل على ترسيخ ذلك دون كلل أو ملل، ودون مواربة أو مهادنة، وهو الذي يعلم أن المجتمع الصالح هو المجتمع الذي تسوده العدالة الاجتماعية بأوسع معانيها وأشرف أشكالها، وأن من ركائز هذه العدالة، العدالةَ في القضاء، وإذ يقر أهل الاختصاص اليوم أن سلامة الجسم القضائي محرك مهم للتنمية، حتى قيل: (أعطني قضاء سليماً وجيداً، أعطيك تنمية دائمة) وأن الإخلال بذلك زعزعة لأهم مقوِّمات استقرار البلد فضلاً عن تقدّمه.. فإن النموذج الذي قدّمه علي(ع) يمثّل مرجعية مهمة في هذا الإطار.