خطبة الجمعة 20 جمادى الآخرة1433 ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: المشهد الكويتي


ـ (اعلموا رحمكم الله أنكم في زمان القائل فيه بالحق قليل... فتاهم عارم، وشائبهم آثم، وعالمهم منافق) علي(ع).
ـ تحدثت في الأسبوع الماضي عن ضوابط إقامة الحدود الشرعية، وذكرت حينها أن آخر ما يريده الإسلام هو إقامة الحدود على الناس، وأن توبة العبد إلى ربه أفضل، وأن الحدود تُدرأ لأسباب عديدة، وتُخفَّف لأسباب عديدة، ولها آداب وضوابط مهملة أو منسية. وتحدثت عن الصورة السلبية التي يقدمها البعض عند الحديث عن تطبيق الحدود وكأنهم يريدون إشفاء غليل أو إطفاء غيظ أو استجابة لعقدة، وقد قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: (فلا يكن أفضلَ ما قلتَ في نفسك من دنياك: بلوغُ لذة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل أو إحياء حق).
ـ وأي منصف لن يختلف معي في أن الأجواء الانفعالية والمواقف الاستعراضية هي السمة الغالبة لكل الحراك السياسي والثقافي والتربوي والإعلامي في الكويت اليوم، فهل نتأمل في ظل هذه الأجواء أن نضبط مشاعر وسلوكيات وردود أفعال الشباب الذين لا يخفى أن العاطفة عندهم متغلبة ـ بطبيعتها ـ على العقل بحكم المرحلة السنية التي يمرّون بها.. وهل من الإنصاف أن نحاكمهم ونعاقبهم قبل أن نحاكم ونعاقب (الكبار) الذين يرسمون معالم كل ذلك المشهد البائس؟ وكلمة أمير المؤمنين(ع): (اعلموا رحمكم الله أنكم في زمان القائل فيه بالحق قليل... فتاهم عارم، وشائبهم آثم، وعالمهم منافق) كأنه يقول فيها أن الصورة السلبية للشباب هي جزء من الصورة السلبية الكلية للمجتمع بشيبته وعلمائه.
ـ وكما أنه من الخطأ استلال آية حد السرقة من سياقها في سورة المائدة، وآية الزنا من سياقها في سورة النور، كما بينت، فإنه من الخطأ المطالبة بإقامة الحدود الشرعية دون مراجعة المشهد السياسي والثقافي والتربوي والإعلامي في الكويت على المستويين الرسمي والشعبي.
ـ هناك عدة جهات يفترض بها أن تكون مسؤولة عن رسم معالم المشهد الكويتي، فما الدور الذي قامت به هذه الجهات بما يرفع المجتمع إلى مستوى يمكن بعده أن نتحدث عن تطبيق الحدود الشرعية فيه؟ وهل فعلاً استطاعت أن تحقق المقدمات وتوفر الأجواء بالمستوى الذي تحدثت عنه سورتا المائدة و النور في خصوص حدي السرقة والزنا مثلاً؟
ـ إن من حق كل كويتي حريص على هذا البلد أن يتساءل عن مستوى التنسيق بين الجهات الحكومية التالية: وزارة الإعلام.. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.. وزارة التربية.. وزارة التعليم العالي (خصوصاً كلية الأصول والشريعة).. الهيئة العامة للشباب والرياضة.. لجنة الوسطية.. التنسيق الذي يتم من خلاله تعديل ذلك المشهد الذي يزداد بؤساً يوماً بعد يوم، ووفق استراتيجية وطنية واضحة، لا تحكمها الطائفية، ولا يستهدف من ورائها إشباع أطماع البعض في نيل المناصب أو تحقيق المكاسب المادية أو الاستعراض الإعلامي الفارغ.. التنسيق الذي يعيد صياغة فكر وأخلاقيات وسلوكيات الشباب الكويتي الذي يتجاذبه المتطرفون من الطائفيين والتكفيريين والعلمانيين ليقعوا في النهاية ضحية كلمة غير مسؤولة أو تصرف أخرق.
ـ إن من حق كل كويتي غيور على وطنه أن يتساءل عن مخرجات التعليم العالي والمعهد الديني والمراكز الدينية الواقعة تحت إشراف وزارة الأوقاف، وعن مدى تناغمها مع الجهود الاستراتيجية المدّعاة لترسيخ قيم الوسطية في المجتمع، أم أنها في واقعها تتعارض تعارضاً بيّناً مع تلك الاستراتيجية الوسطية؟ وهل نجحت اللجان والهيئات المشكلة لتحقيق الوسطية في إشراك أهل الاختصاص بما يعكس حقيقة التنوّع المذهبي والفكري الذي يعيشه المجتمع؟ وما مدى الاستعانة بالمتخصصين في شؤون الإعلام وعلماء النفس واختصاصيي علم الاجتماع لتقديم الحلول العملية والواقعية لكل هذا العبث الحاصل في المشهد الكويتي؟ أعتقد أن الإجابة عن كل التساؤلات السابقة واضحة لكل متابع لما يجري على الأرض، وخلاصتها أن كثيراً مما يؤسَّس باسم الوسطية أو توجيه الشباب ورعايتهم دينياً سرعان ما يتحول إلى أداة جديدة بيد المتطرفين والمتعصبين.
ـ وستبقى الهواجس المتعلقة بالغبن الذي يشعر به المواطن الكويتي من أبناء الطائفة الجعفرية في نيل حقوقه التي كفلها له الدستور على مستوى تأسيس المحكمة الجعفرية الخاصة بالأحوال الشخصية وتشييد المساجد في المناطق المختلفة (بشكل طبيعي ودون تعقيدات وعراقيل وأعذار يختلقها مسؤول هنا وموظف هناك ليبقى الطلب يتأرجح طيلة سنوات عديدة في أروقة الوزارات والإدارات البلدية.. وقد يرى النور.. وقد يبقى حبيس الأدراج) وفي تشريع قانون الزكاة الذي لم يعطِ الحق للمواطن أن يوجّه زكاته إلى مؤسسة رسمية كإدارة الوقف الجعفري، بينما تعطيه الخيار في توجيهها إلى بيت الزكاة أو وزارة المالية.. وغيرها من قضايا ستبقى هاجساً يشحن الشباب ويدفعهم لاتخاذ مواقف والاتيان بسلوكيات وردود أفعال غير متزنة تعود طائلتها على المجتمع برمته.
ـ وهكذا تأتي في نفس الاتجاه ممارسات مجلس الأمة التي بات يغلب على أعضائه الأسلوب الاستعراضي ويتم من خلاله دغدغة مشاعر الناخبين بتصريحات واستجوابات وسن قوانين دون مراعاة للآثار السلبية الكثيرة التي تهدم أسساً كثيرة شيّدها أبناء هذا المجتمع طوال عقود مضت، ولا تعطي مجالاً للتفكير والتخطيط فضلاً عن تشييد أية مشاريع حقيقية فاعلة تنتشلنا مما نحن فيه من وضع مأساوي.. فالجلسات تلو الجلسات تُستهلك في مشاهد الصراخ والحركات البهلوانية والمواقف الاستفزازية من جميع الأطراف لتنتهي دورة وتبدأ دورة، بينما تتسارع عجلة الانحدار في المشهد العام.. ولتطغى اللغة الطائفية الصادرة من هذا النائب وذاك، والمشحونة بالكثير من الطاقات الهدّامة لأسس التعايش والمحبة التي نص عليها الدستور في مادته السابعة حيث قال: (العدل والحرية والمساواة دعامات المجتمع، والتعاون والتراحم صلة وثقى بين المواطنين). وما إقرار قانون تغليظ العقوبة على المتعرض للذات الإلهية والإساءة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وزوجاته، ورفض شمول القانون لأهل البيت والسيدة فاطمة الزهراء ابنة رسول الله إلا واحدة من الأمثلة التي تؤكد أن سن ذلك القانون إنما جاء كإفراز من الإفرازات الطائفية لا أكثر.
ـ فهل يتوقع من أي شاب يتابع ذلك أن يكون متوازناً في تفكيره وسلوكياته؟ وأين هي مؤسسات المجتمع المدني التي فضّل بعضها الدخول في حالة من الغيبوبة، بينما انساق البعض الآخر منها في الحراك السياسي حتى طغى على طبيعة دورها المجتمعي؟
ـ وإذا كانت هناك بعض المحاولات لضبط دور وسائل الإعلام والاتصال بالتقنين والمعاقبة فإن الواقع أثبت أن هذا الأمر لم يثمر بالصورة المطلوبة، وأن لبعض الأجندات الخاصة والرغبة في التكسب المادي الدور الكبير في صب الزيت على نار الفتنة، كما أن القانون عاجز عن التعامل مع قنوات فضائية تبث من خارج الكويت، ومع مواقع على الإنترنت يمكن الوصول إليها ولو حُجبت، بما يمثل جزء من ضريبة الانفتاح الاتصالاتي الحديث.
ـ ولعل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) النور:19، يقدم لنا قاعدة مهمة لا تخص فاحشة الزنا فحسب، بل تشمل كل ما يفسد طهارة الجوّ الذي يغمر المجتمع، فالله سبحانه يريد للإشاعات والكلمات اللاّمسؤولة أن لا تنطلق في الأجواء لأنها ستشكّل خطوةً سلبيّة، ويريد للكلمات أن تتحرك بحيث تكون خطوة تربويّة إيجابيّة، لأن الإنسان يتأثر بالمجتمع سلباً أو إيجاباً من خلال الفكرة التي يحملها عنه، أو من خلال الجوّ الذي يحتويه بفكره وروحه وحركته.
ـ وكما ذكرت في مقالة سابقة بأن المشكلة لا تكمن في شخص المتهم بالتعرّض للإمام المهدي عليه السلام بسوء، (وهو الشخصية التي يؤمن بها جميع المسلمين وإن اختلفوا في مصداقها الخارجي) بقدر ما هي مشكلة مناهج وزارة التربية التي لم تنجح في تقديم هذه الشخصية بصورة يحترم فيها كل مسلم عقيدة الآخر، أعود لأقول هنا أن المشكلة لا تكمن في شخص المتهم بالتعرض بسوء للنبي(ص) أو لأزواجه المكرَّمات، بقدر ما هي مشكلة كل المشهد الذي يعيشه المجتمع في الكويت وعلى كافة المستويات السياسية والثقافية والتربوية والإعلامية.. فهل سيتحمل عقلاء الوطن مسؤوليتهم في هذا الإطار، أم سنبقى نتفرج على مسرحية هزلية بإخراج ردئ؟ .. ولات حين مناص.