خطبة الجمعة 20 جمادى الآخرة1433 ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الأولى: لماذا ابتسمت الزهراء؟


لو خُيِّرت المرأة بين أن تقضي حياتها بين أبنائها الصغار وبين أن تكون مع أبيها ولو كان التخيرر شعورياً فقط، فمن دون شك أن الوضع الطبيعي للأمومة يقتضي أن تختار الكون بين أبنائها..
وهنا نسترجع معاً موقفاً جرى في أخريات حياة النبي(ص)، وهو على فراش الموت، حين نادى حبيبةَ قلبِه وقرةَ عينِه الزهراء(ع) فأسرّها شيئاً فبكت.. ثم أسرّها شيئاً فابتسمت.. ولما سئلت عن ذلك لم تجب إلا بعد أن توفي(ص) وكشفت عن سر تلك الابتسامة .. فهي قد ابتسمت حين أخبرها أنها أولُ أهلِ بيتِه لحوقاً به.. أي أنها سرعان ما ستكون إلى جانب أبيها لا بين أبنائها.
ابتسمت.. فهي ـ إذ تُخيِّر نفسها بين الأمرين من الناحية الشعورية ـ قد فرحت أن تكون مع أبيها.. خيارٌ ليس باليسير، فأبناؤها
سيدا شباب أهل الجنة.. ومعهما العقيلة الحوراء زينب عليهم السلام أجمعين.. وأي أم لا تتمنى أن يكون أبناؤها الحسن والحسين وزينب.. وأن تكون بينهم.. تشمُّ ريحَهم.. وتتلمس خطواتِهم؟!! ولكن الزهراء ابتسمت في تلك اللحظة.. فهي في عين كونها أماً للحسن والحسين وزينب.. هي أم أبيها محمد صلى الله عليه وآله..
في تلك الابتسامة تجلّت دلالات كلمة النبي.. وهو الصادق المصدٌّق.. حيث وصف الزهراء بأنها أمُّ أبيها.. في تلك الابتسامة تجلّت مشاعرُ أمومتِها للنبي في أقوى صورة معبِّرة عن كل تلك العلاقة العظيمة..
في تلك اللحظة ما كانت الزهراء تخيرُ نفسها بين أن تكون ابنةً أو أماً.. بل بين مشاعرَ أمومتِها للنبي ومشاعرَ أمومتِها لأبنائها.. فابتسمت سلام الله عليها وهي تختار مشاعرَ أمومتِها لأبيها وحبيبِ قلبِها ونورِ عينِها محمد(ص).
ثم تفكَّروا أيها الأحبة.. أيُّ قلب هذا الذي يستطيع أن يستوعبَ قلبَ رسولِ الله المحمَّلِ بمسؤولياتٍ بسعةِ أمة.. وهمومٍ بحجمِ الجبال.. حتى لكان يتأثر بالآية النازلة على قلبه في وعيٍ منه لدلالتها الكبيرة ومسؤوليتها العظيمة حتى قال: (شيبتني سورة هود).. شيَّبته بثلاث كلمات.. (فاستقم كما أمرت).. لمثل هذا القلب كانت الزهراء تُفيض من حنانها وعطفها ومشاعرها ما يعوّض أباها عن حنانٍ وعطفٍ ومشاعرَ أمِّه آمنة.. ورفيقةِ دربِه خديجة.. فيا لقلبِك الكبير مولاتي..
وهنا رسالةٌ إلى كل أمٍّ ترى في الزهراء قدوةً.. ولكنها جعلت قلبَها أسيرَ همومِ الوظيفةِ والعمل.. حتى حوَّلت أجواءَ بيتها إلى ساحةٍ مكملةٍ لكل تلك الساعات الطويلة التي تقضيها بعيداً عن أبنائها..
ورسالةٌ إلى كل أمٍّ ترى في الزهراء أسوةً.. ولكنها وقعت أسيرةَ صالوناتِ التجميل، وتقاليع جراحات التجميل.. فما عاد يهمها أيُّ أمرٍ قبيح يمازج عقولَ أبنائها وأرواحَهم وجوارحَهم..
ورسالةٌ إلى كل أمٍّ ترى في الزهراء أنموذجاً عظيماً.. ولكنها أضحت أسيرة الحفلات والولائم.. وجعلت أبناءها في مرتبةٍ متأخرةٍ في سُلَّمِ أولوياتِها.. فالأمومةُ ليست مجردَ نسب.. ولا محضَ عنوان و صِفة.. بل حقيقةٌ تستوجبُ الكثيرَ من التضحية والصبر حتى ترتقي الأمومةُ إلى مراتبَ تكون فيها الجنة تحت أقدامها.
إليكن أيتها الأمهات سيرةَ الزهراء.. لا لتتفاخرنَ بها.. ولا لتُقِمْن بها مجالس التنابز على أفخمِ سُفرةٍ أحضِرت أدواتُها من باريس.. وارتُديت فيها أثمنَ الألبسةِ المجلوبةِ خصيصاً من دور الأزياء العالمية.. حتى إذا أقيم المجلس واعتُلي المنبر تردد الحديث عن زهد فاطمة في مأكلها وملبسها ومسكنها.. وأذرفت الحاضراتُ الدموع.. دموعٌ لا يُدرى أهي دموع الخجل مِن مِثل هذه التناقضات التي نعيشها.. أم دموعُ الوجلِ من كتابٍ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها.. والإنسان على نفسه بصيرة.. وقد قال أمير المؤمنين(ع) من قبل: (هيهات أن يغلبَني هواي، ويقودَني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أوَ أبيتُ مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرى؟).. وهو إذ أعذرنا في شئ من ذلك حين قال: (ألا وإنكم لا تقَدِرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعِفّة وسَداد) لم يجعل الأبواب فُتّحاً لصور البذخ والإسراف فيما يقام باسمهم عليهم السلام.
اَللّـهُمَّ صَلِّ عَلَى الصِّدّيقَةِ فاطِمَةَ الزَّكِيَّةِ حَبيبَةِ حَبيبِكَ وَنَبِيِّكَ، وَاُمِّ اَحِبّائِكَ وَاَصْفِيائِكَ، الَّتِى انْتَجَبْتَها وَفَضَّلْتَها وَاخْتَرْتَها عَلى نِساءِ الْعالَمينَ، اَللّـهُمَّ وَكَما جَعَلْتَها اُمَّ اَئِمَّةِ الْهُدى، وَحَليلَةَ صاحِبِ اللِّواءِ، وَالْكَريمَةَ عِنْدَ الْمَلاَءِ الاَْعْلى، فَصَلِّ عَلَيْها وَعَلى اُمِّها صَلاةً تُكْرِمُ بِها وَجْهَ أبيها مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَتُقِرُّ بِها اَعْيُنَ ذُرِّيَّتِها، وَاَبْلِغْهُمْ عَنّى فى هذِهِ السّاعَةِ اَفْضَلَ التَّحِيَّةِ وَالسَّلامِ .