غفلة.. ولحظة حرجة

{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} النحل:53.. تحيط النِّعم بالإنسان، سواء أكانت القوى الذّاتيّة التي يمتلكها، أو العوامل الخارجيّة الّتي تمدّه بأسباب الحياة، أو تسهِّل له استمرارها بشكلٍ أفضل. ويُفترض بهذه الأسباب المباشرة التي تحقق النعمة للإنسان أن تقوده بذاتها إلى الله الّذي خلق السّبب وأودع فيه سرّ السببيّة، وخلق الإنسان، وألهمه عمل ما يقوم بعمله، أو صُنع ما يقوم بصناعته من أدوات النّعم.. فالعاقل لا يتوقف عند ظاهر الصورة بل ينفذ ببصيرته إلى ما وراءها.
غفلة مستمرة:
لكنّ الإنسان يغفل عن ربّه، ويستمرّ في غفلته، فينساه حين يشكر مُحسناً على عطائه، أو طبيباً على العلاج الذي يصفه، أو المعلم على المعلومة التي يقدمها، وهكذا.. هو ينسى أن مالك هذه النعمة في الأساس هو الله جل وعلا كما قال سبحانه على لسان الخليل إبراهيم عليه السلام: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) الشعراء:78-80. فالنبي إبراهيم لا يريد إنكار دور الطبيب والمزارع والراعي والطباخ وغير ذلك ممن يكون سبباً مباشراً لتوفير تلك النعمة واستحقاقه الثناء على ذلك، ولكنه ينفذ ببصيرته إلى أعماق ذلك العطاء، إلى الخالق المنعم المسبب للأمور بأسبابها.. وهو الله سبحانه وتعالى.. فيتوجه إليه بالحمد والشكر ابتداءً قبل أن يبادر أحداً بذلك.
والمشكلة في نسيان هذه الحقيقة أو الغفلة عنها أن الإنسان ينسى معها ضرورة الالتزام بطاعة الله، والذي يمثل صورة مهمة من صور الشكر، فيتخبط في علاقته بربه نتيجة ذلك.
سُكر الشباب:
ولعل أكثر المعرَّضين لتلك الغفلة هم الشباب الذين يعيشون سُكر مرحلتهم العمرية التي يشعرون معها بعنفوان القوة الجسدية، والإيقاع القوي للرغبات الجسدية التي تحاول أن توظف كل الطاقات العقلية والعاطفية والجسدية لإشباع الغرائز المختلفة، فلا تعطي مساحة كافية لتوجه الشاب نحو خالقه لكي يشعر بعظيم الإنعام والامتنان.. الأمر الذي ينعكس بالتالي على طبيعة العلاقة مع الله طاعةً وعصياناً.. إقبالاً وإعراضاً وتمرداً.. والتي قد تحتاج في لحظة حرجة إلى صدمة قوية تهزّ وجوده، وتعيده إلى رشده ووعيه وصوابه، فيكتشف حاجته إلى الله من جديد، ويلجأ إليه في ابتهال المضطرّ الخائف الرّاجي الّذي يتوسّل إلى ربّه ليكشف عنه ما أصابه من ضرّ: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}.. أي ترفعون أصواتكم إليه مستغيثين به، في صورة فطرية متّصلة بكلّ خلجة من خلجات المشاعر، وبكلّ نبضةٍ من نبضات القلوب، وبكلّ حركةٍ من حركات العقل، تستيقظ وتتحرّك وتهمس للحسّ وللقلب وللعقل بكلمة الله، ليعيش الإنسان معها من جديد، فيحسّ بالحنان والحبّ والعاطفة، تهوي عليه من علياء الله الّذي يعفو ويسامح ويرحم ويغفر، فلا يشعر هذا الشاب بوجود حواجز تحول بينه وبين الأمل بالرّحمة الّتي تكشف الضرّ عنه، وتفرّج عنه غمّه وهمّه وكربه، تماماً كما تصدح الأصوات في دعاء الجوشن الكبير: (يا عُدَّتى عِنْدَ شِدَّتي يا رَجائي عِنْدَ مُصيبَتي يا مُونِسي عِنْدَ وَحْشَتي يا صاحِبي عِنْدَ غُرْبَتي يا وَلِيّي عِنْدَ نِعْمَتي يا غِياثى عِنْدَ كُرْبَتى يا دَليلي عِنْدَ حَيْرَتى يا غَنائى عِنْدَ افْتِقارى يا مَلجَئي عِنْدَ اضْطِرارى يا مُعينى عِنْدَ مَفْزَعى) وفي أدعية شهر رمضان فيما رواه الكليني عن الصادق عليه السلام: (اَللّهُمَّ اِنّي بِكَ وَمِنْكَ اَطْلُبُ حاجَتي، وَمَنْ طَلَبَ حاجَةً اِليَ النّاسِ فَإِنّي لا اَطْلُبُ حاجَتي إلاّ مِنْكَ وَحْدَكَ لا شَريكَ لَكَ) وهي الصورة التي يجب أن يعيشها المؤمن في الشدة والرخاء ليؤكد من خلالها كل الإخلاص في الإيمان بوحدانية الله، وفي اللجوء إليه.