مُذكّرات مُراهق ـ الجزء التاسع

في تلك الفترة كنتُ أحبّ أن أخرج مع بعض أصدقائي في رحلات بعيدة عن البيت، ولقد رآني جدِّي أجادل أبي وألحّ عليه بأن يمنحني ثقة أكبر، فلم أعد طفلاً صغيراً، وأنّه يحقّ لي أن أغيب عن البيت أو أتأخر في العودة إليه، أو أن أسافر مع أصدقائي إلى حيث أشاء، وكان يوضِّح لي أنّ ثقته بي كبيرة، لكنه لا يمكن أن يثق بالآخرين بنفس الدرجة، وضربَ لي مثلاً، قال: (إنّ الأب أو الأُمّ مثل مدرِّب فريق كرة القدم، فهو يُقدِّم التعليمات والتوجيهات والتوصيات ويُراعي بعض الإحتمالات، ثمّ يُراقب ذلك من خلال التمرينات والتحضيرات والإستعدادات، ولكنه لا يضمن التزام اللاعبين بتعليماته مئة بالمئة، لأنّ هناك فريقاً آخر يلعب على الساحة وله أيضاً تعليماته وتوجيهاته).
وعلى الرغم من أنّ أبي كان مُحقّاً في مخاوفه، لكنني لم أتفهّمها جيِّداً، واعتبرتُ أنّه يضيِّق عليَّ في حرِّيتي، وأنّ بعض الشبّان المراهقين الذين أعرفهم أكثر حرِّية مني لأنّ آباءهم – وهذا تصوّر لا يستند إلى دليل – يثقون بهم أكثر من ثقة أبي بي.
في زيارتي التالية لبيت جدِّي، حدّثني جدِّي، قائلاً: (يا حبيبي، لا يمكن الطيران من العشّ، فحتى حينما يكون للطائر جناحان، فإنّه يحتاج إلى أُمّه لتعلِّمه الطيران، ألم ترَ أنّ المصانع والمعامل لا تُدخِل العامل الجديد إلى الورشة مباشرةً، بل لابدّ من فترة تدريب يقضيها على يدي عامل ممارس ومدرِّب قديم، ثمّ يراقبه ويصحّح أخطاءه حتى يصل إلى مرحلة الاعتماد على النفس).
ثمّ أضاف وعيناه تلمعان بابتسامة مُحبّة من وراء زجاج نظارته: (إنّ الاستقلالية التي تتحدّث عنها نسبيّة.. فليس فينا إنسان مستقلّ تماماً، فأنا في هذا العمر لا أزال أحتاج إلى جدّتك في بعض الأمور، كما هي تحتاجني في بعض الشؤون، وقد تُصحِّح لي أخطائي وأصحِّح لها أخطاءها).
وهنا نقلتُ لجدِّي مقولةً كنتُ متأثِّراً بها، وهي أنّ الثمرة إذا نضجت سقطت عن الشجرة، فعلّق عليها جدِّي بقوله: (يبدو أنّك – يا ولدي – لم تقرأ المقولة جيِّداً، إنّهم يقولون الثمرة الناضجة.. وهذا صحيح، أمّا ثمرتنا) وقد وضع يده على رأسي ليعنيني بما يقول، (فهي في أوّل النضوج، ومتى ما نضجت واكتمل نموّها، فلكلِّ حادثٍ.. إنّك الآن أشبه بسائق تحت التدريب.. صحيح أنّ مقود السيارة بيدك، ويمكنك أن تتّجه بالسيارة إلى المكان المحدد، لكنك لا يصحّ أن تقول لمعلِّم السياقة أو القيادة الذي يجلس إلى جانبك: إنّك تُقيِّد حرِّيتي، إنّه هناك ليُعلِّمك كيف تستخدم حرِّيتك بشكل صحيح، فهو يريد أن يتأكّد من مهارتك وسلامة قيادتك للسيّارة في الشوارع الداخلية والفرعية، قبل أن ينطلق بك في الخطِّ السريع والطرق الخارجية، وما لم يطمئن إلى أنّك استوفيتَ شروط القيادة، فإنّه لا يعطيك رخصة القيادة).
وعلى الرّغم من أنّ كلام جدِّي كان مُقنعاً إلى حدٍّ كبير، لكنني لم أرد حينها أن أقتنع، لأني أتصوّر أنني قادر على سياقة السيارة وقيادتها في الطرق الخارجية بمُفردي.. فهل أنا مخطئ في عنادي هذا؟