معالجة ثقافة البغضاء ـ الشيخ علي حسن

كتبت في الأسبوع الماضي عن نسيان الميثاق الإلهي من قبل النصارى على ما أخبر به القرآن الكريم، وأن جزءً من ذلك الميثاق المنسي يتعلق بأسس العلاقات الإيمانية والإنسانية، الأمر الذي أدى إلى استحكام العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، مع كل صور التجميل والشرعنة لها.
وإذا كان قوله تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) المائدة:14، يأتي في سياق تحذير المسلمين من تكرار ذات الخطأ التاريخي، فكيف عالج القرآن الكريم ثقافة وروحية البغضاء؟ سألقي الضوء هنا على بعض تلك المعالجات:
1ـ ترسيخ الميثاق الإلهي:
وهو الماثل في قوله سبحانه: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) آل عمران:102، لا باعتباره خطاباً لأبناء طائفة ما، بل هو لكل من تشهد الشهادتين.. ولا باعتباره أمراً مؤقتاً مرهوناً بالظروف العصيبة، بل باعتباره أصلاً من الأصول الإسلامية التي تحقق حالة من الوقاية الروحية والعملية للمجتمع المسلم.
2ـ التجاوز عن السيئة:
ومقابلتها بتصرف يدل على الرفعة وكرم الأخلاق: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) فصلت:34. فالمعاملة بالمثل تحقق الحركة الدورية للكراهية، ومن يقابل الإساءة بالإحسان يكسر تلك الحركة الدورية، ثم يحوّلها إلى حالة احترام أو علاقة أخوية قوية. وإذ كانت المسألة جداً صعبة كما قال تعالى: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) فصلت:35، فقد كان العطاء الإلهي لهذا الصابر فوق الوصف: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) الزمر:10.
3ـ نبذ لغة الشتائم والإهانات:
لاسيما لمقدسات الطرف الآخر، لأنها من أشد الأمور التي تمكّن الأحقاد في النفوس، وتغلق منافذ القلوب أمام أية دعوة حق: (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) الأنعام:108. وقد قال أمير المؤمنين علي عليه السلام في ما كتبه لعبد الله بن عباس: (فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذّةٍ أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطلٍ أو إحياء حق)، فابحث عن كل الوسائل التي توصل كلمة الحق إلى الآخر، واستعملها، وابحث عن كل الوسائل التي تطفئ بها نيران الباطل في العقول وفي القلوب وفي الأعمال، واستعملها.. أما السبّ فلن يساهم في إحياء الحق وإطفاء الباطل، بل لن يمثل إلا حالة ذاتية من بلوغ لذّة أو شفاء غيظ، لا يُثاب عليها الإنسان ولا يؤجَر، بل قد يؤثم عليها ويؤزر.
4ـ إيفاء الآخرين حقوقهم:
فبخس الحق والحرمان يؤجج نار الكراهية والعدوان، وبلحاظ قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) المائدة:91، ندرك صورة المقارنة مع ما نحن فيه، فمن يمارس لعبة قمارية فإنه يدخل في أجوائها وهو يدرك أن للحظ دوراً كبيراً في خسارته، وأن للغش دوراً مماثلاً، ومع هذا يمتلئ قلبه بغضاً للفائز، وقد يمارس العدوان عليه.. فما بالنا بمن يدخل عالم التنافس في العطاء العلمي أو الوظيفي أو غير ذلك من مجالات الحياة، وهو يبتني سلفاً أن للجهد المبذول وللإتقان الأثر في التقييم والمفاضلة من قبل أصحاب القرار، فإذا به يصطدم بواقع استبعاده أو تهميشه وفق النظرة الضيقة والمعطيات الطائفية أو العنصرية، لا وفق المعطيات الحقيقية؟ لاشك أن العداوة والبغضاء ستكون أكثر تمكّناً في نفسه من الصورة الأولى.
حرية التعبد بأريحية:
وهكذا عندما يُحرَم المواطن من حقوقه في ممارسة شعائره الإيمانية بأريحية، أو يهدد بين الفينة والفينة بعصا الرقيب، أو لا يُعامل بالمساواة في إنشاء مؤسساته وتمويلها، وغير ذلك من صور التمييز الطائفي، فإنها لن تثمر إلا مسلك العداوة وروحية البغضاء.
شرعنة الكراهية:
لقد تحولت الكراهية ـ لدى البعض ـ إلى نوع من القربات التي يُتقرب بها إلى الله، وصارت كراهية المسلم للمسلم ومعاداته، بل ومقاتلته، مدرسةً لها بُناتُها ودُعاتُها والحارسون لأسوارها وأسرارها، فاستحكمت في النفوس وسيطرت عليها وأثمرت ثمرتها القاتلة، وأزهرت تكفيراً وتضليلاً واقتتالاً ومنابذة.
واستهوى التكفيرُ بعضَهم حتى لجأ إلى ادّعاءِ نسخ قوله تعالى: (لاَ إكْراَه فِي الدِّين) للتخلص من أي إلزام في هذا المجال، أو أية حجة قد تقام عليه.. واستهواه التخلصُ من الآخر المختلف معه ولو في قضايا فرعية اجتهادية، أو لقصورٍ الآخَر في التعبير، أو لاجتزاءٍ في قراءة نص كلامه، أو لزلة لسانٍ في لحظةٍ انفعاليةٍ لا يُحاسَب عليها الإنسان كما يُحاسب فيما لو كان قاصداً معانداً.. ليجد هذا البعض ضالَّته في إشفاء عداوته وبغضائه، فيلجأ إلى القذف بتهمة الردّة مَن شاء، وليطالب بإنزال عقوبة الإعدام بحقِّهم، متناسياً أن الحدودَ تُدرأ بالشبهات كما اتفق على ذلك المسلمون كافة.
لقد عاش المسلمون عصوراً مظلمة حُكمَ فيها على عديد من العلماء الأبرار بتهمة الردة، وعلى الكثير من البسطاء الأبرياء بتهمة المروق عن الدين، ولأسباب طائفية محضة، لا يكمن وراءها سوى ما قاله تعالى: (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء) فأعدِموا وأحرِقت أجسادُهم أو دفنوا أحياءً أو انتُهكت حُرُمُهم، ولم يجنِ المسلمون من وراء ذلك حينها سوى التخلف والتمزق وتمكين العدو.. حتى إذا جاءت الأجيال اللاحقة لعنت أسلافها على ما كسبت أيديها.. فهل نعِ اليوم دروس الماضي، أم نبقى أسراء العداوة والبغضاء، لتلعنَنا الأجيال القادمة على كل ما دمرناه من منابع الخير ومقوّمات العطاء الرحب وركائز الفطرة الإنسانية؟