مُذكّرات مُراهق ـ الجزء السابع

من حسن حظِّي أنّني وأختي قد حُظينا بوالدين مؤمنين يلتزمان بالعبادات، وكانا على خلق حسن، وكانت سيرتهما معنا ومع الناس تؤثِّر فينا – أنا وأختي – تأثيراً كبيراً، ولم تكن تلك شهادتنا – أنا وأختي – بهما فقط، فكثيراً ما كنتُ أسمع من الجيران والأقرباء كلمات المدح والثناء بحقِّهما، وأنّهما ربّيا فأحسنا التربية، وكنتُ أسعد بسماع كلمة: رحم الله والديك، إذ قدّمت لأحد الناس خدمة. ونظراً لما كان يتمتّع به أبواي من سمعة حسنة لدى الجيران، كنتُ أخشى أن أرتكب خطأ يلومونني عليه، أو ينتقدونني بالقول: ما هكذا الظنُّ بأُمِّك وأبيك.
ولقد حدّثت أحد أصدقائي المقرّبين والمخلصين بهذا الأمر، وكان حبيباً إلى نفسي، حتى أنّني كنتُ أعتبره أخاً لم تلده أمِّي، لأنّه على جانب من التهذيب والخلق العالي، عفيف اللِّسان لطيف المعشر، حسن السلوك، فكان خُلقه الحميد يجذبني إليه، وربّما وجد هو فيَّ الشيء نفسه.. قال لي: إنّ الخشية من الناس عند ارتكاب الخطأ شيء جيِّد، وهو يُعبِّر عن نوع من الحياة المحبّب، لأنّه يحفظك ويحرسك من ارتكاب الأخطاء علناً وعلى مرأى ومسمع من الناس، وقد سمعتُ من إمام المسجد القريب منّا أنّه يقول: إنّ ذلك يُنمِّي حالة الإحساس بالخشية من الله فيما إذا التفت الإنسان إلى أنّ الخشية من الجار الصالح يمكن أن تتطوّر إلى الخشية من الله الذي لا يغيب عنه شيء، وهو معنا أينما كنّا.
كلامُ صاحبي هذا شجّعني أن أصطحبه إلى المسجد للتعرّف على إمام الجامع والإستفادة من بعض المسائل الحيوية التي كان يطرحها، وبما أنّ حضور الفتيان والشبّان كان لافتاً في ذلك المجلس، تحدّث ذات مرة عن مشاكل الشباب المراهقين، وكان حديثاً جريئاً أسمعه لأوّل مرّة من عالِم دين.
بعد انتهاء المحاضرة وانصراف الناس، قال لي صديقي: تعالَ نسأل الشّيخ عن بعض ما كان يدور في خلدنا، وكانت علاقة صاحبي بعالِم الدِّين في ذلك المسجد وثيقة بحيث لا يتحرّج أن يطرح عليه أسئلته بصراحة شديدة، فبادره بالسؤال: شيخنا، ما رأي الدِّين بالغريزة الجنسية؟ فتحدّث الشيخ بلغةٍ واضحةٍ ولطيفةٍ ومؤدّبةٍ عن اهتمام الإسلام بهذه الغريزة التي يتحدّث عنها بعض المراهقين بشكل شهواني مُعيب ومُهين، وكان ممّا قاله:
لم يخلق الله تعالى غريزة في داخلنا إلا وقد أعدّ لها ما يلبِّيها، فما دامَ هناك (جوع) لابدّ أن يكون هناك (طعام)، وما دام هناك (ذكر) يحتاج إلى (الأنثى) فلابدّ أن تكون هناك (أنثى) تحتاج إلى (الذّكر)، حتى تتوازن الحياة وتستقيم وتعمر بالبناء والإبداع. ومن هنا كان الميل إلى الجنس الآخر سبباً في الكثير من الإبداعات، وليس هناك غريزة تتحرّك لغرض الإشباع فقط، فالجائع يأكل ليحصل على الطاقة، والشاب يتزوّج ليُنشئ أسرة، ولا مانع – في الأثناء – أن يستلذّ الجائع بالطعام، ويستمتع الشاب أو الفتاة بالزواج.
ثمّ تحدّث عن الدافع الجنسي وأهمّيته في الحياة بطريقة مختلفة عمّا كان يدور بيننا نحن المراهقين في السّرّ وفي الغرف المغلقة، فقال: إنّ الميل إلى الجنس نعمة من نِعَم الله تعالى على كلا الجنسين، فلو انعدم هذا الميل، لما اهتمّ الشاب ببناء شخصيّته الإجتماعية، وتطوير حياته المعيشية. ولما فكّر أن ينعم بظلال أسرة سعيدة، ولما اهتمّت الفتاة ببناء شخصيّتها التربوية لتكون زوجة صالحة وأمّاً صالحة، ولذلك يمكن القول بأنّ الميل إلى الجنس الآخر يقضي – إلى حدٍّ كبير – على أنانية الإنسان وحبِّه لذاته، لأنّه يجعله يفكِّر في تكوين أولى وأهم نواة إجتماعية وهي (الأسرة).
كلام الشيخ الواعي عن طبيعة العلاقة الجنسية وأثرها في حياتنا شجّعني على أن أطرح عليه سؤالاً مباشراً، فجمعتُ كل أطراف شجاعتي، وقلتُ له، شيخنا، وما رأي الدِّين بالعلاقة بين الجنسين قبل الزواج؟ قال الشيخ: اختصر لك الجواب بنقطتين: الأولى: إنّ الله تعالى حصر تلبية الغرائز – الجنسية وغير الجنسية – بالمباحات، ولم يسمح لنا أن نُلبِّي أو نُشبع غرائزنا بالحرام، أي الممنوع شرعاً، ولو قارنت بين العلاقة الجنسية الشرعية (الزواج) وبين العلاقات الجنسية غير الشرعية، لرأيت أنّ إيجابيات الأولى أكثر من إيجابيّات الثانية، وأنّ سلبيات الثانية تفوق سلبيات الأولى. فالحرام يؤدِّي إلى ضياع النسل وتفشِّي الأمراض وتفكّك الأسرة وفساد المجتمع، ولذا لم يُحرِّم الله شيئاً إلا وكانت فيه مضرّة ومفسدة.
الثانية: إنّ كل فتاة أو امرأة أجنبية عني (أي ليست أمّاً أو أختاً أو عمّةً أو خالة) هي أختي في الإسلام، أعاملها بكل احترام كما أعامل أختي، فكما لا أريد لأحد أن يتعدّى على أختي بالسوء، فكذلك الآخرون لا يريدون أن يتعدّى أحد على أخواتهم وبناتهم بالسوء.
ولمّا تكاثرت أسئلتنا في هذا المحور، قال إمام المسجد: كنتُ شابّاً مثلكم وعانيتُ ما تُعانون، لكنّ الذين ربّوني – وأحسنوا تربيتي – أشاروا عليَّ بنقطتين: الأولى: أن أضع سلّماً بالأولويّات، فكنتُ أقدِّم (الأهمّ) على (المهمّ)، فكانت دراستي ونجاحي وبناء شخصيتي بناءً محترماً تأتي في المقدّمة.
الثانية: لم أقترب من الشجرة المحرّمة، فكما تعلمون فإن الله لم يقل لآدم وحوّاء (لا تأكلا) من هذه الشجرة، بل قال: (لا تقربا) هذه الشجرة، فعلمتُ أنّ الاقتراب من المُثيرات الجنسية يعني وقوعي في المحرّمات، فحاولتُ – جهدي – أن لا أكون قريباً منها، وقد ساعدني ذلك كثيراً على الوفاء بالتزامي في النقطة الأولى.