خطبة الجمعة 6 جمادى الآخرة 1433ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : حفظ النظام العام


ـ (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً) الحج:40.
ـ ترتسخ في أذهان بعض المتدينين صورة مغلوطة حول مسألة حفظ النظام في المجتمع، على أساس أن الالتزام بذلك مرهون بوجود دولة تقوم على أساس مطابق للشريعة الإسلامية وفق رؤية مدرسة أهل البيت عليهم السلام لمسألة الحكم، كدولة المعصوم عليه السلام، أما مع انتفاء ذلك فإن المسؤولية ترتفع عن المكلف، ويكون في حِل من الأمر.
ـ المقصود من النظام العام: (مجموعة القواعد والضوابط التي يتوقّف عليها استقرار وتوازن الحياة الإنسانية على الأصعدة الاجتماعية والسياسية والأمنية والاقتصادية كافة).
ـ من نافلة القول بالنسبة إلى العقلاء تأكيد الحاجة إلى النظام العام، وقد أكد القرآن الكريم على أن هذا الوجود المادي بأكمله قائم على نظام عام يحكمه: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) الملك:3-4.
ـ كما تؤكد النصوص الإسلامية على أن من أهم مسؤوليات الأنبياء والأئمة هي إقامة النظام العام وحفظه: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) الحديد:25. أي أن تتحقق العدالة الاجتماعية، وهي ركن أساسي لتحقيق النظام العام. وعن علي(ع): (والإمامة نظاماً للأمة)، وعنه(ع): (أوصيكم بتقوى الله ونُظم أمركم).
ـ ولما كان وجود الحاكم ركناً آخر في منظومة حفظ النظام العام قال علي(ع): (لاَبُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِير بَرّ أَوْ فَاجِر، يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ، وَيَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ، وَيُبَلِّغُ اللهُ فِيهَا الْأَجَلَ، وَيُجْمَعُ بِهِ الْفَيءُ، وَيُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ، وَتَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ، وَيُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ، حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ، وَيُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِر).
ـ فخرق النظام وإشاعة الفوضى والتعدي على القوانين التي هي للصالح العام أمر لا يتسامح فيه الإسلام، وإن لم يكن الحاكم بَراً، وإن لم تكن البلد من بلاد المسلمين، لأن المسألة لا تتعلق بالحاكم، ولا بنوع الحكم، بل تتعلق بالمصالح العامة للناس، وحتماً أن الفوضى وكسر القانون مما لا يحقق هذا الصالح العام بل يضرّ به.
ـ ولذا اعتبر أمير المؤمنين(ع) أن: (شَرُّ البِلادِ بَلَدٌ لا أمْنَ فِيهِ ولا خَصْب) والأمن والتنمية فرع حفظ النظام.
ـ وعندما نأتي على المستوى الفقهي نجد أن حفظ النظام يقدَّم على الحكم الشرعي الأولي عند حدوث التزاحم بينهما، ومن أمثلة ذلك حرمة التصرف بممتلكات الغير دون رضا من المالك، إلا أن هذا الحكم الأولي يرتفع في ما لو توقف تحقيق النظام على ذلك، كما لو كانت هناك حاجة ضرورية إلى شق طريق عبر هذه الممتلكات مع رفض أصحابها.
ـ وأكثر من ذلك، حيث أن في التشريعات الإسلامية مرونة للتعامل مع الظروف المتغيرة التي تفرض تغييراً ما إذا كان ذلك يصب في مصلحة تحقيق وحفظ النظام العام، كالعقوبة الجسدية المنصوصة لبعض المخالفات القانونية، حيث يمكن استبدالها بعقوبة مالية مثلاً انطلاقاً من أن حفظ النظام هو الأساس لنظام العقوبات، ولا دليل على أنّ العقوبة الجسدية هي الطريقة الوحيدة والمتعيّنة في هذا المجال.. وقد أفتى المرجع الراحل السيد أبوالقاسم الخوئي بجواز وضع غرامة مالية على الأشخاص الذين يعتدون على الطرقات العامة ووضع ما يضرّ المارة عليها، معلّلاً ذلك بحفظ المصالح العامة.
ـ وهكذا الأمر بالنسبة إلى القضاء، فالأساس في القاضي ـ وفق الفقه الجعفري ـ أن يكون مجتهداً، ولكن لو استدعى حفظ النظام العام في المجتمع توفير قضاة من غير المجتهدين بسبب كثرة القضايا وشح القضاة، جاز ذلك وفق ما أفتى به بعض الفقهاء، مع رعاية الأكفأ فالأكفأ.
ـ إن من أهم أسباب تكوّن تلك الصورة المغلوطة حول مسألة حفظ النظام في المجتمع هو أننا عندما تعاملنا مع الفقه الإسلامي كفقه ذا صبغة فردية فقط، غفلنا عن العديد من الأصول والمقاصد الشرعية التي تمثّل أطراً له، وبالتالي حدّقنا في جانب من الصورة، وأغفلنا اللوحة بأكملها، حتى أصبح الإسلام الشخصي والشكلي الفارغ من مضمونه الإنساني هو المعيار والحَكَم في التديّن. مع العلم بأن من الفقه ما له صبغة فردية كالتوضؤ للصلاة، ومنه ما له صبغة عامة كالأحكام التجارية والخمس والزكاة والأحوال الشخصية والأوقاف وغيرها كثير.
ـ ومن خلال هذه القراءة المنقوصة للأحكام الشرعية لم يرَ بعض المتدينين بأساً في التعدي على الممتلكات العامة تخريباً أو نهباً، كما قد يبيحون لأنفسهم التلاعب في عدادات الكهرباء والماء أوالاختلاس من المال العام أو قبول الرشاوى، كل ذلك تحت ذريعة أن الحكومة لا تملك ـ من الناحية الفقهية ـ ما تحت أيديها من أموال، وأنها أموال مجهولة المالك، في تركيز على الجانب الفردي من المسألة وغفلة عن أن القضية ليست فردية، بل هي ذات ارتباط وثيق بالنظام العام للمجتمع وبالتالي يحرم الإخلال به، تماماً كحرمة أكل الميتة مثلاً، والذي هو معصية ذات بُعد شخصي.
ـ وهكذا أباح بعض المتدينين لأنفسهم خرق قوانين المرور أو القوانين البيئية أو تنظيم المدن أو التركيبة السكانية في المجتمع كقضية العمالة السائبة مثلاً، وغيرها من تجاوزات كثيرة، ما دام أن المكلف بعيد عن أعين الرقابة والمحاسبة، أو أنه يمتلك نفوذاً ما يتعالى به على القانون، وكل ذلك بذريعة أن الحكومة ليست حكومة المعصوم التي يجب فيها مراعاة النظام العام، في غفلة عن أن هذا الأصل لا علاقة له بطبيعة الحكم.
ـ إن حفظ النظام العام يأتي في أولويات الضرورات، لأن المحافظة على وجود الإنسان ومقوّمات استمراره تأتي في الدرجة الأولى من أولويات مراعاة الأحكام الشرعية، وكما يأثم الإنسان ويُحاسَب في الآخرة على المعاصي ذات البُعد الفردي، فإنه يأثم ويحاسب على المعاصي ذات البعد العام، بل يمكن القول أن حفظ النظام العام هو الأول والأولى في سلم الضرورات الإنسانية؛ وعليه يأتي في أوّل كبريات المحرّمات الشرعية، ويعني ذلك بأن المسألة هذه تأتي في كونها من أشد الكبائر، لاسيما إذا لاحظنا أن الصدق وصلة الرحم وحفظ حرمة الجار واحترام ممتلكات وخصوصيات الآخرين وغير ذلك من الواجبات الاجتماعية هي جزء من منظومة حفظ النظام العام، وأن كبائر من قبيل الكذب والغيبة والنميمة وقطيعة الرحم والتعدي على ممتلكات الآخرين وأكل المال الحرام بالسرقة والغش وغيرها إنما هي جزء من خرق ذلك النظام، وأن حرمتها تنطلق في الأساس من لزوم حفظ النظام العام على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.. إن أي مجتمع لا يعيش قدسية النظام العام والمصالح العامة، بل تغلب عليه الشخصانية والنزعة الفردية سيخط لنفسه طريقاً حتمياً نحو الفشل والانهيار.