لماذا نسينا الميثاق ؟ الشيخ علي حسن

قال الله عزوجل: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) المائدة:14.
في هذه الآية حديث عن واقع أتباع الرسالة العيسوية (عليه وعلى نبينا وآله السلام) من بعده، فقد كان انتماؤهم إلى هذه الرسالة في الأصل انتماءَ عقيدة وانتماء عمل، وهذا هو الميثاق الذي أخذه الله منهم، أي أن يلتزموا مضمون هذه الرسالة اعتقاداً وإيماناً، وأن يلتزموها تطبيقاً للتكاليف المختلفة من قبيل: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ) البقرة:83-84.
نسيان الميثاق الإلهي:
ولكنهم بمرور الوقت وتبدل الظروف نسوا جانباً من الميثاق.. نسوا حقيقة توحيد الله، ونسوا صفاء العلاقة بالله، ونسوا ما تأسس من علاقة إنسانية سامية بين المؤمنين بهذه الرسالة، ونسوا منظومة الحقوق والواجبات فيما بينهم، واتَّبعوا أهواءهم ومصالحهم الضيقة.. فخرجوا من الأفق الرحب الذي يكفله الإيمان، وحبسوا أنفسَهم في كهوف العصبية.
النتيجة الحتمية لما سبق كانت استحكام حالة العداوة والبغضاء الأبدية فيما بينهم، حتى وقعت الحروب وانتهكت الحرمات.. والتعبير بقوله: (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء) لا تعني الفعل الإلهي المباشر، بل ترتُّب النتيجة ضمن القانون والمعادلة الإلهية.
ولعل التعبير بـ (الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء) لا لمجرد التأكيد، بل للدلالة على أن الكراهية لم تقتصر على الجانب النفسي، بل وتعدته إلى الجانب العملي، لما تحمله الكلمة الأولى من دلالة على الجانب العملي بلحاظ اشتقاقها من (العدْو)، بينما تتضمن الكلمة الثانية الدلالة على الطابع النفسي والشعوري للأمر.
إلا أنه لا يخفى ما في كلمة (أغرينا) من دلالة على اختلاق أطراف الصراع لعناوين محببة إلى النفس تبرر لهم مواقفهم العدوانية وتستدرجهم في ترسيخ حالة العداوة والبغضاء، من قبيل (الانتصار للعقيدة) و(أداء التكليف الشرعي).
عبرة للمسلمين ولكن:
ولا تطرح الآية هذه القضية لمجرد ذم النصارى على الواقع البائس الذي وضعوا أنفسهم فيه، بل هو تحذير ضمني للمسلمين من مغبة تكرار ذات التجربة، وهو ما وقع للأسف الشديد، ولم يستطع المسلمون تجاوزه. فقد أخذ الله الميثاق من المسلمين بكل ما أخذه من النصارى في الجانب العقيدي والجانب العملي.
ومن تلك المواثيق قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) ثم يعقب ذلك بقوله: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) آل عمران:102-104. وجانب من الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الجهود المبذولة لتحقيق الاعتصام بحبل الله وتوحيد الكلمة والتعايش السلمي ومحاربة التعصب المذهبي.
محاربة الوحدويين:
إلا أنه وللأسف الشديد كلما برز على الساحة الإسلامية من يتحمل هذه المسؤولية ويدعو إلى ذلك اتُّهم بالتنازل عن مبادئ مذهبه.. فإذا نهض من المسلمين الشيعة من يتحمل هذه المسؤولية هُدِّد بعصا التضليل، وإذا نهض من المسلمين السنة من يتحمل هذه المسؤولية اتُّهم بنشر التشيع.. حتى نسي الناس أن الإسلام الذي يجمع كل هذه التمذهبات هو الأساس، وأن المصلحة العليا للإسلام والمسلمين يجب أن تكون أولوية من أولويات كل مسلم، تماماً كما أكده أمير المؤمنين علي عليه السلام مراراً وتكراراً من قبيل قوله: (لقد علمتم أني أحق بها من غيري، ووالله لأسلّمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصّة، التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه) فليس هناك تراجع عن حق يؤمن به كل طرف وقام عليه الدليل عنده، بل هناك حكمة في الموقف وتجلي لروح المسؤولية بتقديم المصلحة الإسلامية العليا.
تزيين الباطل:
وقد يحلو للبعض أن يزيّن ويزخرف ويشرعن مفردات الصراع.. فهذا رافضي دمه مباح.. واليهودي والنصراني أهونُ خطراً منه.. وذاك لا يؤمن بولاية أهل البيت.. فلا حرمة له، ولا قيمة لإسلامه.. وما هذا التزيين وما هذه الشرعنة إلا من مصاديق قوله: (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).. والأمثلة كثيرة.
وبكل وضوح، إن الذين يدْعون لوحدة الكلمة ويسعون للتقريب والتعايش بين المسلمين هم الملتزمون بالنهج الإلهي حيث قال سبحانه: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) آل عمران:105، وهم المطيعون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القائل: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلا تَحَسَّسُوا وَلا تَجَسَّسُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلا تَحَاسَدُوا وَلا تَبَاغَضُوا وَلا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا) وهم الموالون لنهج علي عليه السلام وهو المحذِّر: (احذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أحوالَهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم.. واجتنبوا كلَّ أمر كسر فِقرتهم، وأوهن مِنَّتَهم، مِن تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور، وتدابر النفوس، وتخاذل الأيدي) أما من يعمد لمخالفة ذلك والتمرد عليه فإنما يتبع خطوات الشيطان ويخدم الأهداف الإبليسية كما قال تعالى: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ) الإسراء:53.
خدمة أعداء الإسلام:
وعلينا أن لا ننسى أن الفُرقة والتنازع إنما تخدم الذين يتربصون بالإسلام الدوائر ويسعون لتعزيز الصراع في ما بين المسلمين، أو أنها أحياناً قد تنطلق من عندهم، ومن خلال قابليتنا واستعدادنا للانسياق وراء تلك المخططات الشيطانية، نقع في شراكهم.. ففي سبب نزول قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) جاء أن شاباً يهودياً جلس بين الأنصار فذكّرهم بصراعاتهم الجاهلية وأنشدهم بعض أشعارهم في ذلك، فتنازع الأنصار حتى قال أحدُهم: (إنْ شئْتُم والله ردَدْناها جَذْعَةً!) أيْ كما كانت وقْت نشُوبها، وقرروا المضي في الصراع فبلغَ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخَرَجَ إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهُم، فقال: (أبِدَعْوى الجاهليّة وأنا بين أظهركم؟ أَبَعْد إذْ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به وقطَعَ به عنكم أمْر الجاهليّة واسْتَنْقذَكُم به من الكُفْر وألّف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه؟!).
النبي برئ منهم:
لقد قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).. فأنت يا محمد، يا رسول الله، أنت بريءٌ منهم، أنت برئ من انتمائهم إليك، هم لا ينتمون إليك، أيُّ إنسانٍ يريد أن يفرّق بين المسلمين، وأن يُشتّتَ جَمْعَهم، أن يفرِّق كلمتَهم، أنْ يوقِعَ بينهم العداوَة والبغضاء، أيُّ إنسانٍ يسلك هذا السُّلوك فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم برئ منه ومن فعله. وسنعالج في مقالة لاحقة المنهج القرآني في مواجهة ثقافة العداوة والبغضاء.