خطبة الجمعة ـ الأولى ـ 29 جمادى الأولى 1433 ـ الشيخ علي حسن ـ سادة الخلق


ـ محط أنظارنا بيتٌ متواضعٌ في مقاييسِ أهلِ الدنيا والمادة.. بيتٌ أبقى اللهُ بابَه مفتوحاً لأهلِه على مسجد حبيبه ورسولِه دون سائر البيوت.. بيتٌ كان فيه يبتهج الرسولُ ويغتبط، ويُفيضُ من قلبه الحبَّ الأبوي والحنانَ الإنساني على بَضعتِه فاطمة، وريحانتيه من الدنيا الحسن والحسين.. وعلى أخيه وصهره علي..
بيتٌ جمع سادةَ الخلق.. فرسولُ الله سيدُ الأولين والآخرين.. وعليٌّ سيدُ الوصيين.. وفاطمةُ سيدةُ نساءِ العالمين.. والحسنُ والحسينُ سيدا شبابِ أهلِ الجنة.. فهل يمكن لمنطقِ الإنسان ـ والحال هذه ـ أن ينطلق في رحاب الكلمة ليعبّر.. ويصف.. ويمجِّد هذا البيت؟
في هذا البيت كان يجلس ربُّ العائلة.. محمدٌ مع عائلته.. عليٌّ عن يمينه.. وفاطمةُ عن يساره.. والحسنُ والحسينُ في حِجره.. يُقبّل هذا مرة.. وذاك مرة.. يباركُهم ويدعو لهم.. ويسألُ الله أن يُذهب عنهم الرجسَ ويطهرهم تطهيراً.
مِن هذا البيت كان يخرج النبي إلى السفر.. وبه يبدأ إذا عاد..
في هذا البيت الفقير بمقاييس الثَّرَى.. الثريِّ بموازين الثُّريا.. سبّحت الزهراء.. وسبّح معها بعلُها وبنوها بالغدو والآصال.. حتى تلألأ لمَن في السماء وحولَ العرش وأزهر.. وأمسى أصحابُه نجومَ سماواتٍ ازدانت بها الدنيا وتحلّت..
قال أنس: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) فقام إليه رجل وقال: أي بيوتٍ هذه يا رسول الله؟ فقال: بيوت الأنبياء.. فقام إليه أبوبكر وقال: يارسول الله، هذا البيت منها؟ وأشار إلى بيت علي وفاطمة.. فقال: نعم، من أفضلها.
بيتٌ متواضع.. عاشت فيه فاطمة عند علي.. وهو لا يملك إلا قلبَه وسيفَه.. وإلا علمَه وإيمانَه.. فيه طحنت فاطمة بالرحى حتى تورّمت كفُّها.. واستقت بالقِربة حتى اسودّ صدرُها.. وكنَسته حتى اغبرّت ثيابُها.. وفيه لم يكن مِن أثاث الدنيا وزخرفها شيئاً ذا بال.. فقد أوصاهم مِن قبلُ ربُّ العائلة قائلاً: ليست الدنيا مِن محمد.. ولا آلِ محمد.. وحفِظ الآل وصيَّته.. فكانت تِرياقَ صبرِهم.. وزينةَ بيتِهم..
وهو البيتُ الطاهر.. الذي طهّرَه الله في محكمِ كتابه.. والبيتُ الرفيعُ الذي رفعَه الله في محكمِ آياته.. والبيتُ الكريمُ الذي خلّد القرآنُ عطاءاته حيث سطّرَ بأحرفٍ نورانية، ومعانٍ ملكوتية مشهدَ قدومِ عليٍّ يصحبُ ابنيه الحسن والحسين أولَ الصباح.. مقبلين على رسول الله.. فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال: ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم.. وقام فانطلق معهم.. فإذا به يرى فاطمة في محرابها.. وهي تترفع عن حطام الدنيا بلقاء محبوبها.. في سموٍّ روحي وتسامٍ أخلاقي، فتنسى في تلك اللحظات النورانية ألم الجوع وتعبَ العطاء.. كما كان أبوها من قبلُ ينسى تورّم قدميه وهو يصلي في ساعات الليل الطويلة حتى جاء الوحي بقوله عزوجل: (طه، مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) .. وكما هو بعلُها علي الذي كان ينسى ألمَ جراحاتِ المعارك حين يصفُّ قدميه واقفاً بين يدي الله في صلاة الخاشعين..
إلا أن ما ساء الأبَ الحنون في تلك اللحظة أنه رأى بَضعتَه وقد التصق بطنُها بظهرِها.. وغارت عيناها.. فلم يكن حالُها بأفضلَ من حال علي والحسن والحسين.. فنزل جبريل عليه السلام وكأنه يبادر بتقديم الصورة المعنوية الحقيقية لذلك الموقف وقال: خذها يا محمد.. هنّأك الله في أهل بيتك.. خذها يا محمد واقرأ.. وأسمِع الخلائق.. وخلِّد هذه اللوحة الملكوتية.. (إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا.. عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا.. يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا.. وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا.. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا.. إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا.. فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا.. وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا..).
إنه بيتُ المجد السرمدي الذي تعجز الكلمات.. إلا كلمات القرآن الخالد.. أن ترتفع إلى معانيه السامية.. لترسم معالم العز والفخار لآل ذلك البيت الذي لم يكن لأحدٍ الأهليةَ أن يكون أهلاً لسيد الخلق أجمعين.. سواهم.. فهو بيت الوصي.. وبيت البتول.. وليس في الإسلام بيتٌ حوى من المجد والعظمة ما حواه هذا البيت..
ولذلك كان صلى الله عليه وآله إذا غزا أو سافر.. بدأ بالمسجد أولاً.. ليجدد العهدَ ببيتِ الله.. ثم أتى بيت فاطمة ثانياً.. ليجدد العهدَ ببيتِ آل الله.. فسلامٌ على محمد في الليل والنهار.. وسلام على آل محمد ما بقي الليل والنهار..
الخطبة الثانية