سمو الزهراء الشيخ علي حسن - برمنجهام

روى الامام أحمد بن حنبل وآخرون عن ابن أعبُد أنه قال: (قال لي علي بن أبي طالب عليه السلام: يا ابن أعبد هل تدري ما حق الطعام؟ قال: قلت: وما حقه يا ابن أبي طالب؟ قال: تقول بسم الله، اللهم بارك لنا فيما رزقتنا.قال: وتدري ما شكره اذا فرغت؟ قال: قلت لك وما شكره؟ قال: تقول: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا.ثم قال: ألا أخبرك عني وعن فاطمة؟ كانت ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت من أكرم أهله عليه، وكانت زوجتي، فجَرَت بالرحى حتى أثّر الرحى بيدها، وأسقت بالقربة حتى أثرت القربة بنحرها، وخمّت البيت حتى اغبرت ثيابُها، وأوقدت تحت القِدر حتى دنّست ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر فقدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسبي أو خدم.قال: فقلت لها: انطلقي الى رسول الله فاسأليه خادما يقيك حر ما أنت فيه.فانطلقت الى رسول الله فوجدت عنده خدما أو خدّاما، فرجعت ولم تسأله، فذكر الحديث فقال: ألا أدلك على ما هو خير لك من خادم؟ اذا أويت الى فراشك سبحي ثلاثا وثلاثين واحمدي ثلاثا وثلاثين وكبري أربعا وثلاثين.قال: فأخرجت رأسها فقالت: رضيت عن الله ورسوله، مرتين).

سيدة نساء العالمين:
ها هنا تسمو سيدتي..سيدة نساء العالمين..ثم تسمو..ثم تسمو..حتى لا يلحقُها أحد من النساء..
مشاهدُ انفردت بها، فأعجزت النساء قاطبة..
مشهدُ حياتها في بيتها الذي يصفه زوجها عليه وعليها السلام بكلمات بسيطة تحمل دلالات كبيرة: (جرَت بالرحى حتى أثّر الرحى بيدها)!!
يا نساء العالم..تعالين واشهدن سيدتكن أجمعين ماذا كانت تفعل..ثم توارين خجلاً وحياءً واكباراً..ثم قلن كما قالت صويحبات يوسف: ما هذا بشراً..ان هذا الا ملَك كريم.
ومشهد آخر: حيث (سقَت بالقربة حتى أثّرت القربة بنحرها)..
سيدتي..أما كان أحدٌ يكفيك مؤونة ذلك؟! أم هي روح رسول الله تجري في وجودك الزاكي، فأبيت الا ان تتحملي مسؤولياتك بنفسك مهما امتدت الأيدي لتعينك؟ ومشهد ثالث: حيث (خمّت البيت حتى اغبرت ثيابها)، ليس مرة أو مرات، ولكن هي هكذا باستمرار..
أسلوب طبيعي في حياتها الشريفة، تباشر كل أعمال البيت الشاقة باستمرار! ومشهد رابع اذ (أوقدت القدر حتى دنّست ثيابَها) بكل ذلك الدخان المنبعث وبحرارة المَوْقد المتصاعدة..
وحين سألت أباها خادماً يحمل عنها بعض المشاق..أبى..لا بُخلاً عليها بخادم..وقد عزّ عليه ان يراها وقد أرهقها حِملها الكبير..وهي الزهراء..وهي في زهرة أيامها..
ولكنه أراد لها ما هو خير..لا كما نفكر نحن من خلال معاييرنا المعوجة..بل ما هو خير عند الله..وما هو خير بمنطق القرآن..(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا)..فوجّهها الى التسبيح..الى التصعيد..الى السمو..
بُنيّة فاطمة..اذا أويتِ الى فراشك سبّحي واحمِدي وكبّري..بعد كل ذلك العمل الشاق والاجهاد..وقد أدّبني ربي من قبلُ فأحسن تأديبي حيث خاطبني: (انَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً)..
وهكذا أنتِ..حبيبتي فاطمة..ان لكِ في النهار سبحاً طويلاً..عملاً شاقاً..وجُهداً جهيداً..يستنزف قوة الانسان..ويُسلمه الى التعب واليأس والتخلي عن مسؤولياته..
بُنيّة فاطمة..أدّبني ربي ان ذلك السبح الطويل لا تقوّمه الا تسابيح الليل..{انَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} تسابيح تحمل للانسان معناها الروحي..وعطاءها العملي..
واذا كان الليل هو زمن الصفاء والهدوء عندما تخلد كل الموجودات الحيّة للراحة، ويبسط الظلام ظلّه على الأرض ليمنحها الاستغراق في الاسترخاء الهادىء، فان الكلمة عندما تتحرك فيه من بين الشفتين، تمثل العذوبة والحلاوة والروحانية والصفاء والنقاء التي تفتح النفس على الحقيقة، فلا يشوبها غموض ولا تعقيد، ولا يقترب منها الباطل..فتكون أقوم في المعنى، وفي الجوّ وفي الحركة، لأنها لا تنطلق من بين الضجيج، بل تتحرك من عمق الهدوء الذي يمنح الفكر انطلاقه وعمقه وامتداده في الحياة.
وبين تلك الكلمات..ومع كل تلك المعاني..حلّقت الزهراء في عليائها..وسمت على كل ذلك الزخرف..ونطقت نطقها الخالد: رضيت عن الله ورسوله..رضيتُ عن الله ورسوله..
فارتفعَت بذلك مرتين..لتكون فوق النساء جميعاً..اذ صدّقت أباها..ورضيت رضىً هو أكمل الرضى..فما نطقها الا الحق والحقيقة..ومشهدٌ من مشاهد العُلى..فالسلام عليكِ أيتها الصديقة الشهيدة ورحمة الله وبركاته.