فنّ النّحت وأحكامه ـ العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله

المعروف بين فقهاء المسلمين هو تحريم التّمثال الكامل للمخلوق ذي الرّوح، كالانسان والحيوان، دون الجزء منه، كالرّأس واليد والرِّجل ونحو ذلك، ويستندون في ذلك الى رفض الاسلام التشبّه بالأصنام والأوثان الّتي كانت تتمثّل بذوات الأرواح مما يصنعها المثّالون والنحّاتون فيعبدها الوثنيّون، ما قد يتخيَّل الى البعض ان هذه التّماثيل كانت أساس الوثنيّة..وفي ضوء ذلك، يعلّل بعض الاسلاميّين مسألة التّحريم بالعمل على قطع هذه الصّناعة الّتي قد تقود مجدّداً الى عبادة الأصنام، وربما يتحدّث البعض ان النحّات قد يصل الى درجة من الاستغراق في التّمثال الّذي صنعه بحيث يتعبّد له.
ولكنّنا لا نرى أيّ دليلٍ على سلامة هذا التَّحليل والتّفسير، لأنّ الوارد في النّصوص الدّينيّة، ان الحكمة في ذلك التّحريم هي حرمة التشبّه بالخالق في ابداع الحيوانات في أعضائها على الأشكال المطبوعة الّتي يعجز عن نقشها على ما هي عليه، فضلاً عن اختراعها، وقد ورد في عدّةٍ من الأخبار: (من صوّر صورةً، كلّفه الله يوم القيامة ان ينفخ فيها وليس بنافخ).
ونحن نتحفّظ في استفادة التّحريم بشكلٍ مطلق من هذه الأخبار، وفي تعليل التّحريم بالتشبّه بالخالق في صنع التّماثيل، فانّ الظّاهر اختصاص التّحريم بالنحّات الّذي يصوّر الحيوان والانسان بذهنيّة الخالقيّة الّتي قد تضخّم له شخصيّته في تصوير نفسه كخالق، فيكون التّكليف بالنّفخ في التّمثال لبعث الرّوح تحدّياً له من الله، وايحاءً له بأنّ الخالقيّة لا تتمثّل في صنع صورة الجسد، بل في اعطاء الرّوح.
أمّا اذا كان المثَّال مؤمناً مسلماً يؤمن بالخالق وبعظمته ويوحّده في الخالقيّة والرّبوبيّة، ولكنّه يصنع التّمثال لغايات أخرى انسانيّة أو فنيّة أو اجتماعيّة، ابقاءً لصورة المثال المميّز في نظر النّاس ووجدانهم، فلا يمثّل ذلك محاولةً للتشبه بالخالق وتحدّياً له واحساساً بالمشاركة في الخالقيّة، بل هي حالة لا نجد لها مصداقاً في النحّاتين غالباً، ولو كانت المسألة كما يقولون في التشبّه بالخالق في ابداع أعضاء الحيوانات، لكان التّحريم شاملاً لصنع تمثال بعض الجسد، كالرّأس، لأنّه يمثّل قمّة الابداع في الجسد.
وهناك ملاحظة فقهيّة مهمّة، وهي ان الأحاديث الواردة في مسألة اقتناء التّماثيل تؤكّد جواز اقتنائها، وقد جرى الفقهاء على الافتاء بجواز الاقتناء، مع الكراهة في وضعها أمام المصلّي، ما يوحي بأنَّ المشكلة ليست في التّمثال، بل في النحّات والمثّال في استغراقه في ذاتيّته الّتي يختزن فيها معنى الخالقيّة في صناعته للتّمثال، أمّا اذا لم يكن يفكّر بهذه الطريقة، فلا تبقى هناك مشكلة سلبيّة بالنّسبة اليه.
وبعبارةٍ أخرى، ان القبح قبحٌ فاعليّ في حالة القصد السّلبيّ المنافي للايمان لدى الفاعل، وليس القبح قبحاً فعليّاً في طبيعة المثال المجسّم.هذا مع ملاحظة أخرى لافتة، وهي ان السيّد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام قال {أنّي أخلُق لكم من الطّين كهيئة الطّير فأنفخ فيه فيكون طيراً باذن الله}[آل عمران: 49]، فلو كان صنع تمثال الحيوان محرّماً، لما أقدم عليه النّبيّ عيسى عليه السلام حتّى وهو يقوم بالمعجزة.
ومن الطّريف ان المشهور من الفقهاء حرّموا رسم صورة الحيوان والانسان بالقلم أخذاً باطلاق النّصوص، واكتفوا بتحليل التّصوير الفوتوغرافي.
وفي ضوء ذلك، فاننا نتحفّظ في الافتاء بالتحريم في غير صورة التشبّه بالخالق، واذا كان النحّات المسلم يرغب في الاحتياط في صناعة تمثال الانسان والحيوان فلا بأس بذلك.
انّنا نشجّع الفنّ الاسلاميّ الابداعيّ في مختلف الخطوط الفنيّة الّتي أبدع الفنّانون المسلمون فيها، فيما تركوه لنا من تراثٍ فنّيّ في مختلف جوانب الحياة، ولكن لابد للفنان المسلم من ان يلتزم الأصول الأخلاقيّة فيما يريد الاسلام للنّاس ان يتمثّلوه في سلوكهم الأخلاقيّ مما لا يشجّع على الاباحيّة أو تمجيد الشخصيّات الطاغية أو المنحرفة.
انَّنا ندعو أهل الاختصاص العلميّ والفنيّ والفلسفيّ الى ان يحرِّكوا اختصاصهم في حركة الابداع في ساحة الصِّراع بين الشّعوب في عمليَّة التقدّم والتطوّر، من أجل صنع القوّة للأمّة في قاعدتها في خطّ الانطلاق نحو دور الأمّة القائدة.