خطبة الشيخ علي حسن غلوم حول الاعتداء على زوار البقيع ج2


ألقيت الخطبة في 27 فبراير 2009

ـ أحداث المدينة الأخيرة، ومدار الموضوع مسألة الزيارة، وأريد أن نستجلي الموضوع من الناحية الشرعية لنرى منشأ كل هذه الحساسية وكيف يمكن معالجة الموضوع الذي تكرر. وسأعتمد فيما أطرحه على ما جاء في الموسوعة الفقهية الصادرة عن وزارة الأوقاف الكويتية.
ـ مفهوم الزيارة: الزِّيَارَةُ : اسْمٌ مِنْ زَارَهُ يَزُورُهُ زُورًا وَزِيَارَةً ، قَصَدَهُ مُكْرِمًا لَهُ. وَزِيَارَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاتِهِ تَتَحَقَّقُ بِزِيَارَةِ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ـ الحكم التكليفي: أَجْمَعَتِ الأُمَّةُ الإِسْلامِيَّةُ سَلَفًا وَخَلَفًا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ زِيَارَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى فِي الْمَذَاهِبِ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، تَقْرُبُ مِنْ دَرَجَةِ الْوَاجِبَاتِ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. وَذَهَبَ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ أَبُو عِمْرَانَ مُوسَى بْنُ عِيسَى الْفَاسِيُّ إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ.
ـ دَلِيلُ مَشْرُوعِيَّةِ الزِّيَارَةِ: مِنْ أَدِلَّةِ مَشْرُوعِيَّةِ زِيَارَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ فِي قَبْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، كَمَا أَنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَقَدْ صَحَّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ"، وَإِنَّمَا قَالَ: هُمْ أَحْيَاءٌ أَيْ لأَنَّهُمْ كَالشُّهَدَاءِ بَلْ أَفْضَلُ، وَالشُّهَدَاءُ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَفَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِالْعِنْدِيَّةِ الإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ حَيَاتَهُمْ لَيْسَتْ بِظَاهِرَةٍ عِنْدَنَا وَهِيَ كَحَيَاةِ الْمَلائِكَةِ... وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَزُورُوا الْقُبُورَ، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ" فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ عَامَّةً، وَزِيَارَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى مَا يُمْتَثَلُ بِهِ هَذَا الأَمْرُ، فَتَكُونُ زِيَارَتُهُ دَاخِلَةً فِي هَذَا الأَمْرِ النَّبَوِيِّ الْكَرِيمِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَوْتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي".
وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ: "مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي".
ـ من آداب زيارته: أَنْ يُتْبِعَ زِيَارَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزِيَارَةِ صَاحِبَيْهِ شَيْخَيِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَنْهُمْ جَمِيعًا، أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَقَبْرُهُ إِلَى الْيَمِينِ قَدْرَ ذِرَاعٍ، وَعُمَرَ يَلِي قَبْرَ أَبِي بَكْرٍ إِلَى الْيَمِينِ أَيْضًا. مَا يُكْرَهُ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:... التَّمَسُّحُ بِقَبْرِهِ الشَّرِيفِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِشُبَّاكِ حُجْرَتِهِ. أَوْ إِلْصَاقُ الظَّهْرِ أَوِ الْبَطْنِ بِجِدَارِ الْقَبْرِ.
ـ حُكْمُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ: لا خِلافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء فِي أَنَّهُ تُنْدَبُ لِلرِّجَالِ زِيَارَةُ الْقُبُورِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ بِالآخِرَةِ"، وَلأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ إِلَى الْبَقِيعِ لِزِيَارَةِ الْمَوْتَى وَيَقُولُ: "السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا مُؤَجَّلُونَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ". وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: "أَسْأَلُ اللَّهَ لِي وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ". أَمَّا النِّسَاءُ، فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ تُكْرَهُ زِيَارَتُهُنَّ لِلْقُبُورِ... وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ ـ فِي الأَصَحِّ ـ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلنِّسَاءِ زِيَارَةُ الْقُبُورِ كَمَا يُنْدَبُ لِلرِّجَالِ... وَقَالَ الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ لِتَجْدِيدِ الْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ وَالنَّدْبِ وَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُنَّ فَلا تَجُوزُ، وَعَلَيْهِ حُمِلَ حَدِيثُ "لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ"، وَإِنْ كَانَ لِلاعْتِبَارِ وَالتَّرَحُّمِ مِنْ غَيْرِ بُكَاءٍ، وَالتَّبَرُّكِ بِزِيَارَةِ قُبُورِ الصَّالِحِينَ فَلا بَأْسَ ـ إِذَا كُنَّ عَجَائِزَ ـ وَيُكْرَهُ إِذَا كُنَّ شَوَابَّ، كَحُضُورِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ... وَيُسْتَثْنَى مِنَ الْكَرَاهَةِ زِيَارَةُ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ يُنْدَبُ لَهُنَّ زِيَارَتُهُ، وَكَذَا قُبُورُ الأَنْبِيَاءِ غَيْرِهِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِعُمُومِ الأَدِلَّةِ فِي طَلَبِ زِيَارَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ـ آدَابُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: السُّنَّةُ زِيَارَتُهَا قَائِمًا، وَالدُّعَاءُ عِنْدَهَا قَائِمًا، كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْبَقِيعِ.. وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: يَدْعُو قَائِمًا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَقِيلَ: يَسْتَقْبِلُ وَجْهَ الْمَيِّتِ... وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ:... وَأَنْ يَقْرَأَ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ وَيَدْعُوَ لَهُمْ، وَأَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْمَزُورِ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، وَأَنْ يَتَوَجَّهَ فِي الدُّعَاءِ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَعَنِ الْخُرَاسَانِيِّينَ إِلَى وَجْهِهِ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ.. وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: سُنَّ وُقُوفُ زَائِرٍ أَمَامَهُ قَرِيبًا مِنْهُ... وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لا بَأْسَ بِلَمْسِ قَبْرٍ بِيَدٍ لا سِيَّمَا مَنْ تُرْجَى بَرَكَتُهُ.
ـ الخلاصة: أن هذا التشنج الحاصل عند المسئولين على مرقد النبي والبقيع لا معنى له مع وجود هذه الفتاوى التي أباحت الكثير من العناوين أو اعتبرتها واجبة أو مستحبة، واعتبرت البعض منها من المكروهات. بل حتى مع وجود ما هو محرم على فتوى البعض فهو معارض بفتاوى بعض المذاهب السنية تبيح أو تعتبرها من المكروهات، ولا تدخل في إجماعات تحسم الموضوع. وهذا يعني أمرين:
1ـ أن المسألة ليست خلافاً بين السنة والشيعة، بل بين متطرفين وتكفيريين وبين سائر المسلمين.
2ـ وجود أرضية للنقاش والحوار ـ لاسيما مع ضم فقهاء المذاهب الأربعة إلى المجلس الفقهي في المملكة مؤخراً ـ الأمر الذي نطالب به لكي نقضي على أية احتمامالات أو مظاهر للفتن والمشاكل قد تبرز مجدداً لا سيما على أرض مقدسة وفي أجواء مقدسة يفترض فيها أن تجمع وتوحد، وقد حرص المسلمون الشيعة على حضور الجمعة والجماعات في تلك الأراضي تأكيداً على ذلك.
ـ وإذا كان لدى المسئولين ملاحظات حول بعض ما يُفعل أو يُقال في مجموعات الزيارة عند البقيع فيمكن أن يناقش ضمن مؤتمر عام يجمع الفقهاء والمسئولين، ومن ثم الوصول إلى قرارات وحلول توافقية يبلّغ بها أصحاب الشأن بطريقة حضارية، لا بالهراوات وقذف المحصنات والتضييق والأساليب الاستفزازية.
ـ وأطالب مراجعنا العظام أن يوجهوا في رسالة واحدة وبكلمة حاسمة خطاباً إلى ملك المملكة العربية السعودية وإلى علمائها وإلى الأزهر الشريف لعقد هكذا لقاء وعلى أعلى المستويات لدرء المزيد من الفتن على هذا الصعيد والوصول إلى تفاهمات تقتلع المشلكة من جذورها، ومن يخالف من الطرفين بعد ذلك يحاسب، وقد عهدنا من بعض مراجعنا فيما مضى خطوات مشابهة أتت ثمارها، كتلك التي نشرتها في صفحة منتقى الجمان والتي تضمنت رسالة جوابية من الأمير الراحل الشيخ عبدالله السالم إلى المرجع الشيخ الكاشاني ويعلن فيها عن الاستجابة لطلب المرجعية بطرد الشيخ الجبهان لنهجه التكفيري.
ـ كما أوصي المؤمنين الذين يذهبون إلى الزيارة مراعاة الحال، وتجنب ما من شأنه إحداث الفتنة وتفويت الفرصة على الساعين إليها، حفاظاً على وحدة الكلمة ومراعاةً لحرمة المكان.