مُذكّرات مُراهق - الجزء الخامس

لأنّني شاب مراهق يعيش متطلّبات عصره، كنتُ كثيراً ما أصطدم بأمِّي وأبي في شؤون صغيرة لكنّها كانت تبدو في وقتها كبيرة، فأنا مثلاً من (أنصار الجديد) وامِّي وأبي من (أنصار القديم) أو هكذا كان يُخيّل إليّ في وقتها..كان لي ذوق خاص في اختيار ملابسي، وقصّة شعري، ومشترياتي، ومشاهداتي، وقراءاتي، وكانوا يرون بعض ما أفعله مخالفاً للذّوق العام، وكنتُ أرى أنه هو الذوق، ولم يكونا يجبراني على تغييره، انّما يطرحان وجهة نظرهما، وربّما قسوتُ عليهما بالقول (أنتم عقليّة قديمة)..وكانا – للحقِّ – يستقبلان نقدي برحابة صدر، أو بعدم اظهار ردّ فعل سلبي ازاء ما أصنع..كنتُ أدافع عن جديدي أو عن اختياري حتّى ولو كان مرفوضاً من قِبَلِهما، فقط بأنني كنتُ أتصور ان رفضهما من باب المناكدة لي والتّضييق على حرِّيتي.
سمعني خالي ذات يوم وأنا أصف أبي بأنّه ذو عقلية قديمة، وحينما خلونا الى بعضنا، قال لي بصراحته المعهودة: اذا كنتَ تعيش الآن عصرك، فحينما كان أبوك في مثل عمرك كان يعيش عصره أيضاً، وفي غد قد تبدو في نظر ابنك أو بنتك من الماضي أو من الطِّراز القديم، واختلاف الأذواق أمر طبيعي بين المراهقين أنفسهم، ولكن ايّاك ان تعتبر أنّك باتِّباعك لايقاع العصر ان عقلك أكبر من عقل أبيك..ان استعمالك للكمبيوتر أو للأجهزة التقنية الحديثة، أو معرفتك بآخر اصدارات السينما العالمية لا يعني أنّك أفهم من أبيك، قد تفوق خبرتك في هذه الأشياء خبرته، لكن يجب ان تضع في بالكَ ان تجربة أبيكَ أنضج من تجربتك بأضعاف المرات، واذا كنتَ (خرِّيج المدرسة) فهو (خرِّيج الحياة)..لقد أراد الله تعالى للأجيال ان (تتكامل) لا ان (تتصارع).
وعندما أستوقفه لأضرب له بعض الأمثلة عن المفارقات التي كانت تحصل، كان يوافقني على بعضها، لكنه يقول لي في النهاية: كما أنّك لا تحبّ لأحدٍ أو لأبويكَ ان يجرحا مشاعرك..افعل الشيء نفسه معهما..حاول ان تقول كلمتك، ولكن حاذر ان تجرح مشاعرهما..تأدّب حتى في نقدهما.
ومن خالي تعلّمتُ ان كلمة (أفّ) القرآنية التي نهى الله تعالى عنها كأدنى درجات السوء في التعامل مع الوالدين، لا تحمل معنى التضجّر فقط، بل هي كل ما يُسيء الى الوالدين من كلمات جارحة، بما في ذلك الاستخفاف بعقولهما أو الاستهانة بمعرفتهما.
وبحقٍّ أقول لكم، أنّني – لم أكن في داخلي مسيئاً أو بذيئاً أو محبّاً لاثارة المشاكل – بل على العكس من ذلك، كنتُ طيِّب القلب، مُرهف المشاعر، بدليل أنّني عندما أعرف خطأي – فقد لا أعترف به – لكنني أندم على ما ارتكبه منه بالقول أو بالفعل، أي بالألفاظ أو التصرفات..وبصدق أؤكِّد لكم، ان الكثير من أخطائي لم تكن مقصودة، لا أريد ان أبرِّرها، لكن تسرّعي هو الذي كان يوقعني فيها، واذا كنتُ قد أدركتُ ذلك متأخِّراً، فانّ أبواي كانا يعلمان ذلك جيِّداً، لأنّهما كانا لا يستقبلان أخطائي على أنّها (خطيئة)، وان كنتُ أقرأ على وجوههما (سحابة) خفيفة طفيفة من ألم وحزن.