خطبة الجمعة 22جمادى الأولى 1433- الخطبة الأولى ـ الشيخ علي حسن ـ علياء الزهراء


ـ نعود من جديد مع زهراء الوجود.. مع سيدة النساء.. مع فاطمة وخبر طلب الخادم من أبيها وهي تريد أن تشتكي إليه ثقل سبح النهار.. يقول أمير المؤمنين عليه السلام في نص آخر: (فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما جاء بك أي بنية؟ قالت: جئتُ لأسلِّم عليك).. واستحيت الزهراء أن تسأله.. ورجعت.. فسألها علي عليه السلام: (ما فعلتِ؟ قالت: استحييت أن أسأله).. ها هنا صفة عُليا من صفات الزهراء العليا.. صفة الحياء.. في أرقى صور الحياء.. رقي يليق بسيدة النساء في عليائها.. ومعلوم أن الحياء في النساء صفة عامة من صفاتهن التي تزيدهن جمالاً.. إلا أن حياء الزهراء ها هنا حياء أعلى من حياء سائر النساء.. حياء المرء حين يهم أن يأتي بما لا يليق بمستواه الرفيع..
لقد تذكرت الزهراء أن ما جاءت من أجله وإن كان مشروعاً وجائزاً بل وذا ضرورة.. إلا أن التنزّه عنه أليق بشأنها.. لأن أباها يريد لها ـ على الدوام ـ ما هو أعلى وأسمى وأرقى من سلوك سائر النساء.. فمقام العلياء يقتضي ذلك التنزه.. فكان ردها الجميل: (جئتُ لأسلم عليك).. واستحيت أن تسأله.. إنه ليس الحياء الغريزي في الأنثى .. إنما هو حياء الكمال.. أكملِ الكمال.. حياءُ النفوس الشريفة حين تستحي أن تتنزل عن مستواها.. فكيف وهذه النفس هي نفس الزهراء.. بَضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. مجمع الكمالات؟ إنه شأن عجيب من شئون الزهراء.. وحياء لا يعلمه إلا الله الذي يعلم السر وأخفى..
ويكمل أميرُ المؤمنين عليه السلام ما جرى.. حيث قرر أن يطلب الخادم بنفسه.. رأفة بحال زوجته وحبيبة رسول الله.. فماذا كان جواب النبي وهو يشهد شدة ما نزل بأحب الناس إليه؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: (والله لا أعطيكما وأدع أهلَ الصُفَّة تُطوى بطونُهم لا أجد ما أنفقُ عليهم.. ولكني أبيعُهم وأنفقُ عليهم أثمانَهم).. لو لم يصدر عن رسول الله غير هذا الموقف لكان لوحده برهاناً وآيةً دالة على أنه لا مِثل له قط.. تصرفٌ لا يبلغه إلا رسول الله..
لا أعطيكما.. كلا يا حبيباي.. هناك فقراء أهل الصفة الذي يعيشون في المسجد.. لا مأوى ولا طعام.. تطوى بطونهم.. هم أولى منكما.. اللهم صل.. وسلم.. وشرّف.. وكرّم.. مَن هذا موقفُه..
ويكمل سيدُ الوصيين تفاصيَل ما جرى.. إذ رجعا (فأتاهما النبي وقد دخلا في قطيفتهما.. إذا غطّت رؤوسَهما تكشّفت أقدامُهما.. وإذا غطّيا أقدامَهما تكشفت رؤوسُهما).. مشهد ليس كمثله مشهد.. ومقام جديد من مقاماتهما عليهما السلام.. علي والزهراء.. وكم لهما من مقامات.. اختصهم الله بها من دون سائر الناس.. وتكتمل الصورة إذ ما أن شهدا النبي
عند الباب حتى (ثارا) نهوضاً واحتراماً.. فقال بحنان قلبه الكبير: (مكانكما)!!
كما أنتما.. الزِما مكانَكما يا علي ويا فاطمة.. مكانَكما هناك.. ليست الدنيا منكم ولا أنتما منها.. أهلَ البيت.. مكانكما.. كما أنتما.. إني أحب أن أشهدكما هكذا.. أشهدَ حقيقتَكما الماثلة في قمة الزهد.. وفي قمة التضحيات.. صورة فيها بحر موّاج يموج بأسرار السمو والترفع.. فأنت يا علي مني.. وأنتِ يا فاطمة بَضعة مني.. وما اختاره الله لي.. فإني أختاره لكما.. فأنتَ يا علي أشبهُ الناس بابن عمك.. فتحتّم أن يكون سلوكُك في بيتك أشبه الناس بسلوكي في بيتي.. وأنتِ يا زهراءُ أشبهُ الناسِ بي في الصفات العليا.. فيتحتم أن تكون شؤونك في بيتك أشبهَ الناس بشؤون أبيك في بيته.. ومن هنا كان بيت علي وفاطمة هو الوحيد الذي له بابٌ يُفتَح في المسجد.. وكلُّ الأبواب أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله بسدِّها كما أمره الله جل وعلا.. لقد أراد الله أن يكون هذا البيت المبارك قريباً من بيته عزوجل.. من المسجد.. كما كان هذا البيت قريباً من بيت رسولِ الله.. بل ليس في المسجد بيتٌ غيرُه..
وكان الناس يفهمون من هذا القرب المنزلةَ الساميةَ لعلي عليه السلام.. فقد سئل عبدالله بن عمر مرات عديدة عن الإمام علي فاكتفى بالجواب أن قال: (أمّا عليٌّ فهذا بيتُه من بيتِ رسول الله.. ولا أحدثُك بغيره.. ما في المسجد بيتٌ غيرُه).. وكأن الله جل وعلا أراد القربَ لعليٍّ دائماً.. فوُلدَ في بيت الله.. وعاش في بيت الله.. وصُرع في بيت الله.. ولد في البيت وليس في البيت مولودٌ سواه.. وعاش في المسجد وقد سدَّ بابَ مَن عداه.. وصُرع في المسجد وعلى شفتيه اسمُ الله.. إنكم يا أهل البيت لم تنالوا ما نلتموه محضَ صدفة.. كلا.. وإنما كنتم أهلاً له.. قدَّمتم لله ما لم يقدمه أحد من العالمين.. فرفعكم الله إلى مقام لا يرفع إليه مِن بعدِكم أحداً من العالمين..
وعودةٌ إلى خبر النبي معهما وهما في فراشهما حيث كلماته القدسية: خذا ـ حبيبايَ ـ ما ألقاه إليّ جبريل من التسبيح والحمد والتكبير عَقِبَ كلِّ صلاة.. وحينما تأويان إلى الفراش.. وتحقّقا بحقائق هذه المعارف القدسية.. واصعدا على أمواجها الشعشعانية.. ففيه كمالُ رفعتِكما.. وسموُّ مقامِكما.. ونقلةٌ إلى العالم الأعلى.. فأنت يا علي سيد الوصيين.. وأنتِ يا زهراءُ سيدةُ نساء العالمين.