الخرافة السياسية - الشيخ علي حسن

{يَا أيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إن أكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أتْقَاكُمْ إن اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13).
في عام 1950 أطلقت اليونسكو من باريس وثيقة تتضمن ان التمييز العنصري والإيمان بالجنس الأفضل (مجرد أسطورة اجتماعية قبل أن تكون ظاهرة بيولوجية، هذه الأسطورة التي كانت السبب حتى الآن في إلحاق المزيد من الخسائر الإنسانية والاجتماعية، وأدت في السنوات الأخيرة الى القضاء على الكثير من الناس، وأصابت البشرية بآلام وعذابات لا توصف. وتسببت هذه الظاهرة في إعاقة الملايين من الناس عن التطور الطبيعي، وحرمت الحضارة الإنسانية من تلاقح الكثير من العقول البناءة).

خرافة اجتماعية

هذه الأسطورة والخرافة الاجتماعية تتلخص في الاعتقاد بأفضلية عنصر ما.. ليستتبعه استعلاء هذا العنصر على من سواه.. ثم إعطاؤه الحق بالاعتداء على من هو دونه واستغلاله بزعم أن تكامل الإنسانية والتقدم البشري يتوقف على ذلك! وقد ولدت هذه الخرافة الاجتماعية خرافة سياسية بنفس المضمون.. فنشأت أفكار وتوجهات سياسية خطيرة اعتبرت (فلسفات ومذاهب سياسية) كالنازية والفاشية والصهيونية، لتتحول بعد ذلك الى كيانات تحكم دولاً تدعو الى (التطهير العرقي)، وهو تعبير خبيث يستتر خلف مدلول الطهارة ويختزن ارتكاب المجازر البشرية!

القومية المتطرفة والشوفينية

وما الإيمان بالقومية بصورتها المتطرفة إلا من صور وانعكاسات الإيمان بتلك الخرافة الاجتماعية السياسية، فالقومي المتطرف يؤمن بتفوق كل من ينتمي الى قوميته، وحقهم في الاستعلاء على الآخرين وتسخيرهم لمصالحه ولو بالقوة.
وهكذا الحال في الوطنية بصورتها الشوفينية، حيث يبالغ الوطني المتعصب في شعوره بذلك الانتماء بالمستوى الذي يحوّله الى حالة احتقار واستعداء للآخرين انطلاقاً من النظرة الدونية اليهم، ومن ثم الدخول في صراعات لا تعرف حداً، فكل ما له علاقة بهذا الوطن يمثل الحق مهما كان باطلاً في القوانين السماوية والوضعية. وأقرب مثال على ذلك ما قام به المقبور (صدام) من مسخ مفهوم الوطنية والمواطنة ليحولها الى عقيدة شوفينية دمرت العراق وكلّفت المنطقة بأسرها أثماناً باهظة.

القبلية والتعصب الديني

والقبلية حين تغدو سبباً لتعالي قبيلة على سائر القبائل بشعار عز القبيلة هي من صور الإيمان بتلك الخرافة أيضاً، وعندها تسمح لنفسها بالإغارة والسبي والهجاء في الشعر والطعن في الأعراض وما الى ذلك من الصور التي شهدها التاريخ في أحقاب متعاقبة.
وقد يتحول الانتماء الى دين أو مذهب الى حالة عنصرية تسعى للتدمير والتسخير لا للهداية ولا للتعايش، ففي سفر (التثنية) من العهد القديم: (وحين تقرب مدينة لكي تحاربها استدعها للصُلح، فإن أجابتك للصلح، وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكن للتسخير ويُسْتَعْبَدُ لك، وإن عملت معك حرباً، فحاصرها، واذا دفعها الرََّبُّ إلَهُكَ الى يَدِكَ، فاضرب جميع ذكورها بحدِّ السَّيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتِها، فتغنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاها الرب إلهك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة التي ليست من مدن هذه الأمم، وأما مدن هذه الشعوب التي يُعطيكَ الرب إلهك نصيباً فلا تستبقِ منها نسمة واحدة). وما هذه النظرة العنصرية وهذه الروح التدميرية إلا من خرافة شعب الله المختار التي يؤمن بها اليهود، والتي شهدنا بعض صورها قريباً في الحالة الطالبانية ومنهج القاعدة في أفغانستان وفي العراق وغيرهما.

المشهد في الكويت

ومن يرقب المشهد الاجتماعي والسياسي في الكويت يشعر بقلق من التنامي المطرد لخرافة التميز العنصري والشوفينية والتعصب القبلي وحتى الديني والمذهبي، وما الثمن من وراء لك إلا المزيد من صور الصراع والتدمير لكل ما هو خير ولكل ما هو جميل في هذا الوطن المسكين الذي أراد حكماؤه في وقت ما من خلال الدستور في نص المادة (29) منه أن يؤكدوا مبدأ إنسانياً إسلامياً سامياً حيث جاء فيه: (الناس سواسية في الكرامة الإنسانية وهم متساوون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين) وقد قال نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في أخريات حياته المباركة وأمام تجمع هائل من الناس: (الناس كلهم سواء كأسنان المشط.. يا أيها الناس كلكم لآدم وآدم من تراب.. لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى) أفضلية لا تعني احتقار الآخر، بل تعني توظيف ما عندك من عناصر الخير ليشاركك فيه الآخرون.
ومن الطريف أن يأتي في المذكرة التفسيرية التي هي بمثابة امتداد للدستور ومكمل له بأن: (المشرع لم يشأ أن يضيف عبارة «أو اللون أو الثروة» على الرغم من ورود مثل هذه العبارة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وذلك لأن شبهة التفريق العنصري لا وجود لها في الكويت) ولا أدري ماذا سيكون موقف ذلك المشرِّع لو نظر الى ما آلت اليه الأمور، فلعله كان يضيف في أصل المادة الدستورية كل العناوين التي تمزق اليوم هذا الوطن حتى بتنا مصداقاً لقوله سبحانه في بيان صورة من صور كفر النعم بعد وفورها على المستوى الإنساني والسياسي والاقتصادي والأمني والثقافي والتعليمي: {فقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ان فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ ابْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إلا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (سبأ: 20-19).

حكماء الكويت

إنها دعوة لكل حكماء الكويت، ولكل عقلاء هذا الوطن، أن يتخلوا عن ذاتياتهم وعن عناوين انتماءاتهم التي تؤطّرهم، وعن كل المصالح الشخصية والفئوية التي تتحكم في مواقفهم وردود أفعالهم، ليجلسوا على مائدة واحدة، ويضعوا خارطة الطريق للخروج بهذا الوطن من المأزق الذي وقع فيه، ومن الهاوية التي ينحدر اليها بصورة متسارعة، بعيداً عن فلسفات التنظير، وقوانين التأزيم، وحتى عن البرلمانيين (الذين للأسف لم يعودوا غالباً سوى عناصر تأزيم نزولاً عند ضغوطات أصوات الناخبين أو استجابة لأجندات خارجية أو مصالح ضيقة) أم ستنتظرون الى أن تغدو أوضاعنا الى ما آلت اليه أوضاع لبنان والعراق وسورية، ثم نبحث عمن يأتي إلينا من الخارج ليحل لنا مشاكلنا، وكلنا نعلم أن الآخرين سيضعون مصالحهم على سلم أولوياتهم فيما يعرضونه من حلول.. فاعتبِروا يا أولي الألباب.