مذكرات مراهق (الجزء الرابع)

في أيام المراهقة بدأتُ أنفر من كلمة (افعل هذا) و(لا تفعل هذا)، فأشعر بأيِّ أمر حتى لو كان خفيفاً بأنه ثقيل عليَّ، أو بالأحرى كنتُ أستثقله، وكان أبي يلاحظ ذلك، فقد بتّ أرفض الذهاب الى بقّال المحلّة للتبضع وشراء بعض المستلزمات المنزلية، أو حتى الذهاب الى زيارة بعض الأقرباء، أو أن يقول لي (قُم صلِّ).. أو اترك التلفاز واعمل واجباتك.. اقفل الكمبيوتر..
ومع تغير طبعي واشتداد عنادي، تمكن أبي أن يُغيِّر لهجته، فراح يلزمنا ببعض الأعمال ولكن بصورة غير مباشرة، كأن يقول لي: أنا اليوم مشغول، هل لك أن تساعد والدتك في عمل كذا؟ أو سأشتري الأشياء الفلانية، فساعدني في شراء الباقي، وقد يصيغ طلبه على نحو الاستشارة: ما رأيك أن نفعل ذلك غداً، واستبدل (قُم صلِّ) بـ(لا تنسَ صلاتك يا ولدي).. كل ذلك أشعرني بأن أبي يعتبرني وكيله أو مساعده وأنه يتعامل معي بمساواة، وعلى الرغم من التغيير في أسلوب أبي والتخفيف من وقع الطلبات المباشرة، كنتُ أتذمر أحياناً حتى من هذا الأسلوب.
وقد لاحظ جدي ذلك، فقال لي – وكان يُحدِّثني دائماً على انفراد – ان أباكَ يستطيع ان يفعل بعض ما يأمركَ به بنفسه على الرغم من متاعبه ومشاغله، لكنك أنت المستفيد من هذه التكاليف، ان أباكَ يريد ان يراكَ رجلاً معتمداً على نفسه.. أنتَ غداً ستكون صاحب أسرة، فإذا تعلّمتَ من الآن القيام ببعض واجباتها، ساعدكَ ذلك على أن تكون ربّ أسرة ناجحاً، وأحياناً لا يذهب بعيداً، بل يقول لي: اذا كنتَ تضجر من الطلبات والأوامر، فأنا أقترح عليكَ أن تعالج الأمر بالمبادرة.. اعرض على أبويك الخدمة، قُلْ لهما: هل عندكَ ما تحب أن أساعدك به، فذلك أطيب لنفسيهما وأهون على نفسك.. أما اذا رآني أكثر الجدال في الموضوع فيحسمه بقوله: هل تريد أن يرضى الله عنك؟ فأجيبه: نعم، بالتأكيد، فيقول: المسألة بسيطة.. حاول ان ترضي والديك! وهنا أحب أن أؤكد على ما قد يُساء فهمه، فأنا وإن كنت عنيداً، لكنني أستجيب للمنطق المُقنع، وما مجادلاتي إلا للتهرب، وما كلمات جدِّي أو خالي بالتي تدخل من أذن فتخرج من الأخرى.. إنها تتفاعل (تفاعلاً) كيمياوياً مع مشاعري، وكم من أمر رفضته ظاهرياً، لكنني كنتُ أستجيب له واقعياً عندما أتذكر تلك الكلمات الصادرة عن قلوب تحبني وتريد لي الخير.. الآن أشعر بشعور قوي، اننا حتى وإن كبرنا نبقى بحاجة الى مَن يأخذ بأيدينا، كما كنا صغاراً، ولكن هذه المرة بكلماته الطيبة وحنانه الفائض.