بين القبر والبرزخ / الشيخ علي حسن

(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ) المؤمنون:99-101
وردت كلمة البرزخ في القرآن الكريم 3 مرات، واحدة منها تتعلق بعالم ما بعد الموت إلى قيام الساعة، وهي الآية المتقدمة التي تؤكد وجود مرحلة هي بمثابة الحاجز والفاصل بين الحياة الدُّنيا والحياة الآخرة.. والتعبير بـ (وراء) للدلالة على أمر مستقبلي تعبير لطيف نستعمله في اللهجة العامية أيضاً، وكأن البرزخ شئ يلاحق الإنسان حتى يصل إليه فيحيط به ويستحوذ عليه.
مفاهيم خاطئة:
هناك مجموعة من المعلومات والمفاهيم الخاطئة العالقة بهذه الحقيقة التي نص عليها القرآن وأجمع عليها المسلمون، وتترتب عليها أيضاً بعض التصرفات الخاطئة أو الأحكام الصادرة من الإنسان والتي لا أساس شرعي لها، من قبيل قرع القبر بقطعة حجر عند زيارته.. ادعاء خروج النار أو الدخان من باطن القبر.. الحكم على صاحب القبر بالعذاب عند رؤية الكلاب وهي تحفر القبر أو الحشرات وقد اسستوطنته أو العقارب وهي تحوم عنده وما إلى ذلك.
تصحيح التصورات:
لابد بداية من التنبيه على أمرين:
1. أن للإنسان بُعداً مادياً وبُعداً روحياً التقيا في بدء وجوده (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ) الحجر:28-29، ومن خلال الموت يحدث الانفصال مجدداً.
2. أن استعمال كلمة (قبر) في الأحاديث المروية في كتب المسلمين يختلف معناه بحسب المورد، فتارة يكون المراد هو تلك الحفرة التي يوضع ويُدفن فيها الإنسان، وتارة يراد منها المرحلة الوسيطة بين الدنيا والآخرة (البرزخ) دون أن يكون ذلك مرتبطاً بتلك الحفرة.
وبالتالي عندما نأتي إلى الأحاديث التي تتناول النعيم في القبر والعذاب فيه، كما في الحديث النبوي: (مرَّ عيسى بن مريم عليهما السلام بقبر يُعذَّب صاحبه، ثمّ مرَّ به من قابل فإذا هو ليس يُعذَّب، فقال: يا ربّ مررت بهذا القبر عام أوّل فكان صاحبه يُعذّب، ثمّ مررت به العام فإذا هو ليس يُعذّب؟ فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا روح الله إنّه أدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً وآوى يتيماً فغفرت له بما عمل ابنه) فإننا بغض النظر عن صحة الحديث ذاته نحتاج إلى أن نفكر: هل المراد هو خصوص حفرة القبر، أم المراد عالم البرزخ بخصوصياته الغيبية؟
دليل عقلي ونصي:
لكي تعرف الإجابة عليك أن تتصور المسألة في ضوء وجود 2 مليار إنسان على الأقل لو ماتوا ـ اليوم ـ فإنهم لا يُدفنون أبداً وفق عقيدتهم، بل يُحرقون ويذرون في الهواء أو الماء أو يحتفظ بهم في آنية وما شابه.. فهل ينتفي احتمال العذاب بالنسبة إليهم لانتفاء وجود قبور لهم؟
ثم لاحظ هذا الحديث الذي يرويه البرقي في المحاسن بسنده عن جميل بن دراج قال: (قال أبو عبد الله ـ جعفر الصادق ـ عليه السلام: إن المؤمنين إذا أخذوا مضاجعهم أصعد الله بأرواحهم إليه، فمن قضى له عليه الموت جعله في رياض الجنة..). وواضح هنا أن لا مدخلية للجسد الموجود في القبر أو في أي مكان في تحقق ذلك النعيم، فهو متعلق بالروح.
كلام الشيخ المفيد:
وللشيخ المفيد رحمه الله وهو من أعلام القرن الخامس الهجري كلام مفيد في هذا الباب حيث قال: (أما عذاب الكافر في قبره ونعيم المؤمنين فيه فإن الخبر أيضاً قد ورد بأن الله تعالى يجعل روح المؤمن في قالب مثل قالبه في الدنيا في جنة من جناته ينعّمه فيها إلى يوم الساعة.. والكافر يُجعل في قالب كقالبه في الدنيا في محل عذاب يعاقَب به، ونار يُعذَّب بها حتى الساعة.. وقد قال الله عز وجل اسمه: [النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ] وقال في قصة الشهداء: [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]).
زيارة القبور:
ولذا فالأحاديث التي تنص على معرفة المؤمنين من أهل القبور بمن يزورهم ـ إن صحّت ـ فهي لا تعني أن الأرواح موجودة في القبور، بل هي في عالمها الخاص.. كما أن الأجساد بلا أرواح لا تدرك شيئاً.. وبالتالي فيكون المراد من ذلك أن الله يُطلع أرواحهم على هذه الزيارة، كنوع من التكريم للمؤمن الميت.
وقد تسأل هنا: إذاً ما جدوى زيارة القبور؟ والجواب أن ذلك يعود للزائر من خلال تذكّره الآخرة ومصيره المحتوم الذي ينتظره، فهو غرض تربوي مهم.. بالإضافة إلى كون القبر بنفسه رمزاً للميت، وزيارته تعني الوفاء لتلك العلاقة التي كانت قائمة بين الطرفين.
أين هي الروح؟
والذي يبدو من جمع بعض الأحاديث مع بعضها البعض أن الروح تكون بالقرب من الجسد عند الموت، بحيث تطّلع على مراسيم التشييع والدفن وتبقى لفترة قصيرة ثم تغادر إلى عالمها، وفي الحديث أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر نادى المقتولين من المشركين وقال: (هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً؟ فقيل: يا رسول الله إنّهم أموات فكيف تناديهم؟ فقال صلى الله عليه وآله: إنّهم أسمع منكم). ويبدو أن هذا يخص فترة زمنية قصيرة جداً من حين الموت.
ولربما يُفهم ذلك أيضاً من الحديث الذي رواه الكليني بسند معتبر عن زرارة قال: (قلت لأبي جعفر عليه السلام: أرأيت الميت إذا مات لم تجعل معه الجريدة ـ سعف النخل ـ ؟ قال: يتجافى عنه العذاب والحساب ما دام العود رطباً، قال: والعذاب كله في يوم واحد، في ساعة واحدة، قدر ما يُدخَل القبر ويرجع القوم، وإنما جعلت السعفتان لذلك فلا يصيبه عذاب ولا حساب بعد جفوفهما إن شاء الله). والعذاب المقصود هنا بحسب الظاهر هو ضغطة القبر والخوف الحاصل من الدفن. ولربما يقال أن اندفاع السؤال والضغطة والرهبة إكراماً للميت ولمن شهد له بالإيمان والعمل الصالح بسبب ما يكتب على السعفتين (حيث يكتب عدد من إخوانه المؤمنين شهادتهم له بإيمانه وصلاح حاله)، فيكون ذلك بمثابة الشهادة التي تغني عن سؤال الميت عن عقيدته وعمله.
أغلب الموتى نيام:
هذا مع العلم بأن الموت بالنسبة إلى أغلب الناس ـ بحسب الظاهر ـ بمثابة نومة طويلة لا سؤال فيها ولا ثواب ولا عقاب، ففي الكافي عن الإمام محمد الباقر عليه السلام: (إنما يسأل في قبره من محض الايمان محضا والكفر محضا وأما ما سوى ذلك فيُلهى عنه).
وهذا ما أكده أيضاً الشيخ المفيد بقوله: (ليس يعذَّب في القبر كل ميت، وإنما يعذب من جملتهم من مُحّض الكفر محضا، ولا ينعّم كل ماض لسبيله، وإنما ينعّم منهم من محض الايمان محضا، فأما ما سوى هذين الصنفين فإنه يُلهى عنهم، وكذلك روي أنه لا يسأل في قبره إلا هذان الصنفان خاصة).
خطط لمستقبلك:
ختاماً نؤكد على أن الموت وما بعده غيب بالنسبة إلينا، ولذا فإن حقائقه خافية علينا، وما وصلنا بشكل صحيح وأكيد عن طريق الوحي هو الطريق للحصول على بعض تلك الحقائق، وأن كثيراً مما يتداوله الناس من تصورات تترتب عليها بعض التصرفات الخاطئة إنما منشؤها الأحاديث الضعيفة أو الموروث الشعبي كذاك الذي نفاه أئمتنا عليهم السلام من ادعاء أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر، وأن هذه الطيور تزور أهل الميت، حيث قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام مستغرباً: (سبحان الله، المؤمن أكرم على الله من أنْ يَجعلَ روحه في حوصلة طير).
كما ونؤكد على أن ما يهمنا هنا أن نسعى من خلال إيماننا وتقوانا وعملنا الصالح أن نكون من المؤمنين الذين لا ينالون إلا رضوان الله سبحانه في ذلك العالم كما قال عز اسمه (أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) آل عمران:169-171.