مُذكّرات مُراهق ـ الجزء الثالث

كنّا في البيت (أربعة): أبي وأُمِّي وأنا وأختي التي تصغرني بعامين.. كان أبي موظّفاً عاديّاً، وأُمِّي قد أنهت دراستها الثانوية، وعلى مقربة من بيتنا يقع بيت جدِّي وجدّتي لأبي، وليس بعيداً أيضاً بيت (خالي) الذي يكبرني بسبعة أعوام. هؤلاء كانوا يُشكِّلون أسرتي الكبيرة، وإنِّي لأحمد الله أن استفدتُ منهم جميعاً، فلهم الشكر موصولاً على ما كان لهم من فضلٍ عليَّ، لقد أحببنا بعضنا، والحبّ هو الذي جعلهم (يعطونني) بسخاء، وجعلني (آخذ) شاكراً.
في فترة مراهقتي الأولى كنتُ دائم البحث عن ذاتي ولكن بطريقة مشوّشة وغير مدروسة، وكانت أُمِّي مُعلِّمة ناجحة بامتياز، حيث كانت تخلط نصائحها وتوصياتها لي بالكثير من المودّة والحنو، ومع ذلك فإنّني كنتُ مشاكساً وأعاندها لغرض العناد لمجرّد أنِّي أستشعر في نفسي أنّني أصبحتُ كبيراً، ولم تعد قواعد البيت وقوانينه تناسبني. ولأنّ عقل أمِّي وقلبها كبيران، كانت تتفهّم هذا التحوّل، فبدلاً من أن تشتري لي ملابس من السوق، راحت تسألني عمّا يعجبني من الملابس لأختارها على ذوقي، وربّما استأذنت للدّخول عليَّ في غرفتي، ولم تعد تضغط عليَّ للقيام بأعمال كانت تطلب منِّي فعلها عندما كنتُ صغيراً.
وحينما تجدني معانداً في موضوعٍ ما، لا ترغمني عليه، بل كانت تقول لي كلمات من قبل: (أليسَ هذا أفضل؟!) (ما رأيك بهذا؟! ودعنا نؤجِّل هذا إلى وقتٍ آخر.. فكلّ شيء في أوانه جميل). لم تكن (تدلِّلني) كانت (تعلِّمني) كيف أختار الصحيح بدليل أنّني كنتُ في تلك المرحلة مطلبيّاً (كثير الطلبات).. أرغب باقتناء أشياء حتى ولو لم تكن ضرورية، فلم تكن تُلبِّي لي جميع طلباتي، لم أكن أتفهّم أنّ راتب أو معاش أبي لا يُساعد على المصروفات الزائدة أو غير الضرورية.
والآن حينما أتذكّر استجابتها لمطالبي ـ المعقولة في نظرها ـ أعرف أنّها كانت توازن بين ما هو ضروري وما هو ليس كذلك، لا بالنسبة لامرأة ناضجة مثلها، بل لمراهق في أوّل حياته مثلي. كانت تربط بعض التلبيات بأمور تخصّني وتُشعرني بنوع من المكافأة، ففي الطلبات الكبيرة تؤجِّلها أو تُشرطها بشرط نجاحي آخر العام، وفي الصغيرة بأداء واجباتي وتكاليفي أو تعاوني داخل البيت. كانت تعلِّمني أنّ المكافأة لا تُعطى مجّاناً، وربّما ادّخرت لي بعض الطلبات لتعملها مفاجأة لي في عيد ميلادي مثلاً، وقد ترفض بعضها إذا قدّرت ضرره أو صرفه لي عن واجباتي.. وكنتُ أتضايق من ذلك، وأشكو لخالي من (بخل) أمِّي.
غير أنّ خالي الذي كان بمثابة صديقي المُقرّب ـ على الرغم من تفاوت العمر بيننا ـ كان يحاول أن يفهمني بغير الطريقة التي تتحدّث أمِّي بها معي. ففي الوقت الذي كان يؤيِّد مواقفها ويُبرِّرها لي، كان يُقنعني بطريقة لبقة أن ليس من مصلحتي امتلاك كلّ شيء، لأنّه ليس هناك شخص يمتلك كل ما يريد، وأنّ (حرماني) من بعض الأشياء قد يجعل ما تحت يدي عزيزاً.. كان يقول لي: إنّ اقتناء الأشياء بأوقات سريعة واستبدالها بغيرها يُفقدها لذّتها، وحينما يجدني مصرّاً، يقول لي ملاطفاً: وهل تريد أن تشتري مخزن الألعاب كله؟! من خالي هذا تعلّمتُ أن لا أقارن نفسي بغيري والشبّان والمراهقين، فلكلِّ إنسان ظروفه وإمكاناته.. كنتُ أقول له: فلان وفلان من أصدقائي يملكون أكثر ممّا أملك، فكان يُقرِّب لي الفكرة بزملاء الفصل ويسألني: هل كلّهم متساوون؟ فأقول: لا، فيقول هكذا في الأمور الأخرى. وكان يُشدِّد اللّهجة أحياناً فيقول بأنِّي لستُ الوحيد في حياة أبويَّ.. هناك أختي.. وهناك احتياجات البيت الأساسية، لا تفكِّر بحاجاتك وتنسى حاجات الأسرة!