خطبة الجمعة ـ الثانية ـ الشيخ علي حسن ـ 2 ربيع الآخر 1433 ـ دولة القانون


ـ (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الأنفال:53.
ـ من أهم المرتكزات التي نهضت على أساسها كثير من الأمم والحضارات واستطاعت أن تقدم شيئاً للبشرية على مستويات مختلفة ولمدة زمنية طويلة نسبياً هو قيام دولة القانون، بمعنى أن تصاغ القوانين التي تدار من خلالها الدولة، وأن يُعمل على تطبيق القانون على الجميع. على أن تراعي هذه القوانين شيئاً من العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية وغير ذلك.
ـ وفي بدايات العهد الإسلامي وإن لم يكن هناك دستور مخصص لإدارة الدولة، إلا أن التعاليم القرآنية بالإضافة إلى السنة النبوية كانت تؤدي ذلك الدور. ومن أمثلة ذلك :
ـ التنمية الاقتصادية: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) الملك:15.
ـ التنمية العسكرية: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) الأنفال:60.
ـ والأمثلة عديدة، وعمل على أساسها المسلمون، وحققوا نقلة نوعية لكيانهم، فمن كيان ضعيف يتربص به ألف مقاتل على سبيل المثال للقضاء عليه، تحول الكيان الإسلامي إلى القوة العظمى في العالم، والتي أسقطت دولة الفرس والروم.
ـ ثم جاء أمير المؤمنين وقدّم المبادئ الدستورية لإدارة الدولة في كتابه لمالك الأشتر حين ولاه على مصر، واشتمل على حقوق الإنسان وسبل التنمية وتحقيق العدالة وموقع القانون ودور السلطة القضائية والإدارية وغير ذلك كثير.
ـ وما قدمه أمير المؤمنين في صورته الإجمالية لا يبتعد كثيراً عما تحتويه الدساتير المعاصرة من عناوين.
ـ كل ذلك يحقق النعيم للإنسان، نعيم القوة والأمن والاستقرار والرفاهية، وقد ذهب جمع من المفسرين إلى أن قوله
تعالى: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) لا يخص النعيم الفردي كالمأكل والملبس، بل يشمل العدالة والأمن والاستقرار والقوة الاجتماعية وكل ما يعد نعمة وخير للإنسان كفرد أو كمجموع.
ـ وبما أن المسألة ليست مسألة تشريع فقط، بل مسألة التزام بالتشريعات أيضاً، لذا نجد النبي(ص) يحذّر المسلمين من ذلك بعبارة تلخّص سنّة من سنن التاريخ، ففي الخبر أن امرأة من بني مخزوم كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي (ص) بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة بن زيد فكلموه، فكلم أسامة النبي(ص) فيها فقال له النبي: (يا أسامة، لا أراك تكلمني في حد من حدود الله عز وجل. ثم قام النبي خطيباً فقال إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه).
ـ فمتى ما تمت شرعنة تجاوز القانون والتساهل في تطبيقه، كان ذلك إيذاناً في بداية النخر ثم الضعف ثم الإنهيار والذي عبّر عنه النبي بقوله: (إنما هلك).
ـ في العهد الحديث للكويت تحقق التقدم الملحوظ خلال سنوات قليلة، وكان وجود الدستور والرقابة الشعبية من أهم عوامل هذا الاستقرار والتنمية وامتداد النعمة. وبالطبع فإن هذا الدستور لا يمثل الطموح الأمثل، ولا يلبي رغبات الجميع بتوجهاتهم المختلفة إلا أنه دستور توافقي حقق الكثير من الخير للكويت.
ـ هذا لا يعني أنه لم تكن هناك تجاوزات على القانون وأن الحالة كانت مثالية، ولكن تنامي ذلك بصورة غير مسبوقة خلال العقدين الماضيين، والتجاوب مع ضغوطات ذوي المصالح الشخصية أو الفئوية أو الطائفية عطّل الكثير من القوانين المهمة، وأوجد البيئة الملائمة لتدمير سائر أسس دولة القانون، وهو جزء من حالة التقهقر التنموي الذي نعيشه.
ـ وبما أن اتخاذ القرارات في الأجواء الإنفعالية يفقدها عامل الحكمة المهم في الوصول إلى القرار الأمثل، وبالتالي فإن أية تغييرات على الدستور تُتخذ في هذه الأجواء الإنفعالية وغير المتزنة سياسياً اليوم، سيؤدي إلى فقدان عامل الحكمة في تغيير مواد الدستور، بل وقد يكون إسهاماً في ترسيخ حالة التقهقر التنموي الذي ينخر في جسد الوطن، والتمزق الداخلي الذي يفتت أوصاله.