وقفة مع ابن خلدون في مقدمته - الشيخ علي حسن ـ برمنجهام

لم تكن مقدمة ابن خلدون إنجازاً بسيطاً، بل عملاً يدل على عبقرية استطاعت أن تدرس التاريخ بعمق، وتبحث عن تفسيرات عقلانية تربط الأحداث في مقدماتها وتفاعلاتها ومساراتها، لتقدِّم للبشرية فلسفةً للتاريخ قال عنها المؤرخ البريطاني المعاصر أرنولد توينبي: (قد أدرك وتصوّر وأنشأ فلسفةً للتاريخ هي بلا شك أعظم عمل من نوعه خلقه أي عقل في أي زمان ومكان). إلا أن هذه القيمة للمقدمة لا تعني أنها تمثل الحقيقة الكاملة في تفاصيلها، فهي شأنها شأن أي مجهود بشري تحليلي، قابل للخطأ، أو قد يكون قاصراً عن تقديم الصورة المتكاملة للموضوع المبحوث فيه.
العصبية والدعوة الدينية:
وقد استعرض ابن خلدون فيما استعرضه من قضايا ترتبط بنشوء الحضارات وهرمها واندثارها عنوان (العصبية وعلاقتها بالدعوة الدينية) معتبراً أن أية دعوة دينية لا تتم من غير عصبية، معتمداً في نظريته هذه على قراءة تحليلية استقرائية، ومستشهداً بنص ديني، ليقوم في النهاية بإسقاط النتيجة على قضيةٍ حساسة وهي قضية المهدي المنتظر.. وخلاصة ما طرحه في هذا الإطار ما يلي:
1. الفطرة البشرية التي خلقها الله سبحانه تقتضي أن يكون مسار العصبية هو السعي وراء السلطة، قال: (اعلم أن المُلك غاية طبيعية للعصبية، ليس وقوعه عنها باختيار، إنما هو بضرورة الوجود و ترتيبه).
2. لا يستقيم أمر دين أو شريعة إلا بالعصبية، قال: (الشرائع والديانات وكل أمر يحل عليه الجمهور فلابد فيه من العصبية.. فالعصبية ضرورية للملة و بوجودها يتم أمر الله منها.. وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة و السلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب، وهم المؤيَّدون من الله بالكون كله لو شاء، لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة والله حكيم عليم).
3. وليس أمر الإسلام مخالفاً لهذا السنّة الفطرية، واستشهد بالنص التالي: (في الصحيح: [ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه]). معتبراً أن هذا النص دال على اعتماد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عصبية قومه له لنشر دينه وقيام دولته وامتدادها.
4. أما ما جاء في الإسلام من ذمٍّ للعصبية، فهو في واقعه ذم للعصبية للباطل، أما إذا كانت العصبية للحق فإن الإسلام لم يعارضها، فالإسلام لم يرد اقتلاع العصبية من جذورها، كما أنه لم يقتلع الغضب، ولا السعي للمُلك، ولا الاستجابة للشهوات من جذورها، بل هذّبها في غاياتها ومنطلقاتها، قال: (وليس مراده فيما ينهى عنه أو يذمه من أفعال البشر أو يندب إلى تركه، إهماله بالكلية أو اقتلاعه من أصله، وتعطيل القوى التي ينشأ عليها بالكلِّية، إنما قصده تصريفها في أغراض الحق جَهد الاستطاعة حتى تصير المقاصد كلها حقاً، وتتحد الوجهة.. وكذا العصبية حيث ذمَّها الشارع وقال: لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم، فإنما مراده حيث تكون العصبية على الباطل و أحواله كما كانت في الجاهلية.. فأما إذا كانت العصبية في الحق و إقامة أمر الله فأمر مطلوب، ولو بطل لبطلت الشرائع، إذ لا يتم قوامها إلا بالعصبية كما قلناه من قبل).
5. وإذا كان الإسلام ودعوات الأنبياء المعتمِدة على الغيب أصلاً في مبدئها واستمرارها بحاجة إلى العصبية، فمن باب أولى أن يكون ما عداها أيضاً بحاجة إليها، قال: (وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أوْلى الناس بخرق العوائد، فما ظنُّك بغيرهم أن لا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبية؟).
6. تخطئة الثورات التي انطلقت في عصره أو قبله (القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي) بالاعتماد فقط على البُعد الديني والقِـيَمي دون الاعتماد على العصبية، ولذا كُتب لها الفشل، إما في انطلاقتها، أو في استمرارية الكيان الناشئ على إثر نجاحها، قال: (ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامّة والفقهاء، فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة و سلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء، داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه والأمر بالمعروف رجاءً في الثواب عليه من الله، فيكثر أتباعهم والمتلثلثون بهم من الغوغاء والدهماء، ويعرِّضون أنفسهم في ذلك للمهالك، وأكثرُهم يهلكون في هذا السبيل مأزورين غير مأجورين، لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم، وإنما أمر به حيث تكون القدرة عليه) مستشهداً بالنبوي: ([مَن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه]، وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر).
7. الاستشهاد بعدة حوادث تاريخية قريبة وبعيدة عن عصره، والسخرية من القيادات التي ثارت دون أن تدرك أسس نجاح الثورة، وأهمها الاعتماد على العصبية، قال: (ثم اقتدى بهذا العمل بعدُ كثيرٌ من الموسوسين، يأخذون أنفسهم بإقامة الحق ولا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته من العصبية، ولا يشعرون بمغبَّة أمرهم و مآل أحوالهم). أما مصير هؤلاء الثوار فهو بحسب ابن خلدون: (إما المداواة إن كانوا من أهل الجنون، وإما التنكيل بالقتل أو الضرب إن أحدثوا هرجاً، وإما إذاعة السخرية منهم وعدّهم من جملة الصفاعين).
8. اتهام مدّعي المهدوية، أو النيابة عن المهدي والدعوة له، بالجهل أو الخلل النفسي أو العقلي أو بطلب المُلك، قال: (وقد ينتسب بعضهم إلى الفاطمي المنتظَر، إما بأنه هو، أو بأنه داعٍ له، وليس مع ذلك على علم من أمر الفاطمي، ولا ما هو. وأكثر المنتحلين لمثل هذا تجدهم موسوسين أو مجانين أو ملبَّسين يطلبون بمثل هذه الدعوة رئاسةً امتلأت بها جوانحهم وعجزوا عن التوصّل إليها بشئ من أسبابها العادية، فيحسبون أن هذا من الأسباب البالغة بهم إلى ما يؤملونه من ذلك، ولا يحسبون ما ينالهم فيه من الهلكة، فيسرع إليهم القتل بما يُحدِثونه من الفتنة، وتسوء عاقبة مكرهم).
9. عدم الوثوق بظهور المهدي وإن ذهب المشهور إلى ذلك، قال: (اعلم أن في المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين و يظهر العدل و يتبعه المسلمون و يستولي على الممالك الإسلامية و يسمى بالمهدي). ثم عقّب ذلك بذكر النصوص الكثيرة الدالة على ظهوره في كتب المسلمين، ودرسها سنداً ومتناً، ولم يحسم موقفه بشكل واضح، وإن كانت عبارته التالية تتضمن تشكيكاً أو تردداً حيث قال: (فإنْ صحّ ظهور هذا المهدي...).
والذي يهمنا هنا هو أنه اعتبر أن نهوض دولته لن يخرج عن القانون الذي تبناه بخصوص علاقة المُلك بالعصبية، وبما أن وجود آل البيت المنتسبين إلى فاطمة الزهراء عليها السلام والمتحالفين معه في زمانه ظاهر في أطراف من الحجاز، لذا فإن أية ادّعاء للمهدوية خارج هذا النطاق سيكون باطلاً حتماً، قال: (وعصبية الفاطميين، بل وقريش أجمع، قد تلاشت من جميع الآفاق، ووجد أمم آخرون قد اشتغلت عصبيتهم على عصبية قريش، إلا ما بقي بالحجاز في مكة وينبع بالمدينة من الطالبيين من بني حسن وبني حسين وبني جعفر، وهم منتشرون في تلك البلاد، وغالبون عليها، وهم عصائب بدوية متفرقون في مواطنهم وإماراتهم، يبلغون آلافاً من الكثرة. فإنْ صحّ ظهور هذا المهدي، فلا وجه لظهور دعوته إلا بأن يكون منهم ويؤلٍّف الله بين قلوبهم في اتّباعه حتى تتم له شوكة وعُصبة وافية بإظهار كلمته وحَمْل الناس عليها، و أما على غير هذا الوجه مثل أن يدعو فاطمي منهم إلى مثل هذا الأمر في أفق من الأفاق من غير عصبية ولا شوكة إلا مجرد نسبةٍ في أهل البيت، فلا يتم ذلك ولا يمكن، لما أسلفناه من البراهين الصحيحة).
ـ ولنا في العدد اللاحق وقفة مع بعض ما طرحه العلامة ابن خلدون بإذن الله تعالى.