الشفاعة في القرآن - الشيخ علي حسن ـ برمنجهام

الشفاعة في المعنى الاصطلاحي العقدي عند المسلمين مرتبطة بكرامة الله لبعض أوليائه في ما يريد أن يُظهره من فضلهم في الآخرة، فيُشفِّعهم في من يريد المغفرة له أو رفع درجته عنده.
وقد وردت كلمة (شفع) باشتقاقاتها اللغوية 26 مرة في القرآن الكريم، وباستعراضها نجد أن ما له علاقة بالمعنى الاصطلاحي يشمل 24 آية، بينما قوله تعالى: (مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا) النساء:85، فقد استعلمت الكلمة هنا في المعنى اللغوي، ولها ارتباط بالوساطات التي كان يعرضها بعض المسلمين لبعض المنافقين أو المشركين في العهد النبوي، وهكذا بالنسبة إلى قوله تعالى: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) الفجر:3 والتي أريد بها نوع من الصلاة، أو يوم من أيام السنة، أو غير ذلك مما لا علاقة له بالمعنى الاصطلاحي الذي نبحث فيه.
نفي الشفاعة الوهمية:
ومن يتتبع تلك الآيات ويستقرؤها يلاحظ أنها لا تتحدث عن الشفاعة بقصد إثبات وجودها، بل تتحدث عنها بشكل سلبي كما يلي:
1. نفي الشفاعة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) البقرة:254
2. نفي الشفاعة عن الشفعاء الوهميين الذين كان المشركون يدّعون لهم تلك الكرامة: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) الأنعام:94.
3. بيان عدم تأثير الشفاعة: (وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ) البقرة:123.
4. لا شفاعة إلا بإذن الله ورضاه: (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) البقرة:255. (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) الأنبياء:28.
إثبات الشفاعة بشروطها:
وبالطبع فإن ما سبق لا يعني نفي الشفاعة في الآخرة بشكل مطلق، إذ أثبتت الآيات نحواً من الشفاعة ضمن قانون معين، ولكنَّ اهتمام الآيات انصب على معارضة فكرة الشفاعة بالصورة التي كانت مطروحة من قبل المشركين الذين كانوا يعتقدون أن أصنامهم تملك ذلك الامتياز، وأنهم يتقربون إليها بالعبادة والطاعة وتقديم القرابين لكي تكون لهم الحظوة عندها في تحقيق أمانيهم كلها. والمشركون وإن لم يؤمنوا بالآخرة، إلا أنهم كانوا يواجهون النبي بدعوى أنه لو افتُرض وقوعها فإن تلك الأصنام ستشفع لهم وتخلّصهم من عذاباتها.
ومن جهة أخرى فإن القرآن الكريم لم يحدد أشخاص الشفعاء في الآخرة، بل ذكر منهم الملائكة، كما ذكر بعض صفات الشفعاء.
شفاعة بعد الإذن:
ومن مجمل الآيات القرآنية التي تحدثت عن الشفاعة، فإننا نجد التأكيد على سبق الإذن الإلهي والرضا الإلهي لأية شفاعة، وهذا يعني أن شفاعة الشافعين لا تتعارض مع الحكم الإلهي على عباده، بحيث يريد الله إنزال العقوبة بهم، فيتدخل الشفعاء ليغيّروا الإرادة الإلهية، ويحوّلوا الغضب الإلهي إلى رضا، بل إن الله سبحانه يحكم ـ وفق رحمته ـ باستحقاق فئات من الناس الشفاعة، وحينئذ يشفع الشفعاء فيهم وفق الإذن الإلهي المسبق لهم بذلك، ووفق معرفة الشفعاء بقانون الشفاعة ومعاييرها وشروطها التي وضعها الله سبحانه، وذلك تكريماً للشفعاء من جهة، وتحسيناً لأوضاع تلك الفئات، برفع درجاتهم في الجنة، أو في التجاوز الإلهي عن بعض ما ارتكبوه من معاصي، من جهة أخرى.
مبالغة ومخالفة:
وقد عمل الخطاب الديني الإسلامي في بعض مواقعه على تقديم صورة مشوّشة أو قاصرة حول الشفاعة، أدّت إلى تصوّرها بالشكل السابق، كما أدت إلى تقديم الشفاعة على العمل من حيث المرتبة والأهمية، على الرغم من كل التركيز القرآني على الإيمان والعمل كأساسين للنجاة في الآخرة، في الوقت الذي غلبت فيه الصفة السلبية على الحديث عن الشفاعة.
ونتيجة تلك الصورة المعكوسة جاءت المبالغة عند البعض في الركون إلى الشفاعة في الآخرة دون الاعتناء بالقانون الإلهي الذي ينظّم العلاقة بين الله والشفيع والمشفّع فيه، وهو ما يخالف صريح الآيات السابقة، وصريح الأحاديث الواردة عن النبي وآله في هذا الخصوص من قبيل ما جاء في خطبة النبي صلى الله عليه وآله الأخيرة حيث قال: (أما إنه ليس بين الله وبين أحد من عباده شيء يعطيه به خيراً أو يدفع به عنه شراً إلا العمل، أما إنه لا ينجي إلا عمل مع رحمة. ولو عصيتُ لهويتُ). فالله هو الذي جعل لنبيه الشفاعة للمذنبين، ولكن النبي يريد أن يقول للناس: انطلقوا مع العمل وانتظروا رحمة الله وشفاعته ولا تتجرأوا على ترك العمل والابتعاد عن الخط المستقيم لأنكم تقولون سيشفع النبي لنا.
وكذلك فيما رواه أبوبصير قال: [دخلت على أم حميد أعزيها بأبي عبدالله (الإمام جعفر الصادق عليه السلام وهي زوجته) فبكت وبكيت لبكائها، ثم قالت: يا أبا محمد لو رأيت أبا عبدالله عليه السلام عند الموت لرأيت عجباً، فتح عينيه ثم قال: أجمعوا لي كل من بيني وبينه قرابة، قالت: فلم نترك أحداً إلا جمعناه، قالت: فنظر إليهم ثم قال: إن شفاعتنا لا تنال مستخفّـاً بالصلاة]. وقد أدت القراءة الخاطئة لحقيقة الشفاعة أيضاً إلى دفع البعض للسعي نحو تطوير علاقة خاصة بالشفعاء والتقرب إليهم بأنحاء القربات، لا بدافع الاقتداء والاهتداء، بل أملاً في نيل شفاعتهم، مما أوجد بوناً شاسعاً بين السلوك العام لأولئك الناس وبين سيرة الشفعاء الذين يمثّلون القمة في الإيمان والعمل الصالح والخلق القويم.
نتائج مستخلصة:
بمطالعة الآيات القرآنية التي تحدثت عن الشفاعة يمكن استخلاص النتائج التالية:
1. أكّد القرآن الكريم أصل الشفاعة في الآخرة، وذكر الملائكة كشفعاء، كما ذكر بعض صفات الشفعاء.
2. الحديث القرآني عن الشفاعة في مجمله حديث سلبي وذلك لمواجهة معتقدات المشركين.
3. شفاعة الشافعين لا تمثّل معارضة للحكم الإلهي، ولا تغييراً لإرادته في إنزال العقوبة بالعاصين.
4. من الخطأ المبالغة في الركون إلى الشفاعة دون الاعتناء بالقانون الإلهي الذي ينظّم العلاقة بين الله والشفيع والمشفّع فيه.