خطبة الشيخ علي حسن غلوم حول الثقافة الاقتصادية ج2


ألقيت في 24 إبريل 2009
روي أنه مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسعد بن أبي وقاص وهو يتوضأ فقال: ماهذا السرف ياسعد؟ فقال: أفي الوضوء سرف ؟ قال نعم، وإن كنت على نهر جار.
ولربما يريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كلمته الأخيرة أن يوجهنا إلى ضرورة امتلاك ثقافة اقتصادية تنشأ من تربية هادفة ومقصودة، لئلا تكون ممارساتنا الاقتصادية ـ من قبيل الإنفاق والادخار والإسراف والتقتير ـ عملية ميكانيكية خاضعة لحسابات الثواب والعقاب فقط، وبالتالي تتأثر بمدى تديّن الإنسان، أو إحساسه بالرقابة الإلهية أو الاجتماعية وما إلى ذلك، بل أن تكون تلك الثقافة تلقائية وجدانية ذاتية ونابعة من شخصية الإنسان.
التربية الاقتصادية:
يعرّف الدكتور حسين حسين شحاتة التربية الاقتصادية كالتالي: (تشكيل السلوك الاقتصادي للمسلم المنبثق من تكوينه الشخصي: إيمانياً وخلُقياً ونفسياً وثقافياً وفنياً ، ومن خلال تزويده بالثقافة الفكرية وبالخبرات العملية الاقتصادية وبما يتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية ، لتحقيق الحياة الرغدة الكريمة لتعينه على عمارة الأرض وعبادة الله عز وجل). ولهذه التربية والثقافة الاقتصادية آثار رائعة نلخّص جملة منها:
أولاً ـ إدراك المعادلات الإلهية في الرزق:
فلله سبحانه معادلات خاصة في توزيع الأرزاق بين العباد، ولا تقتصر المسألة فقط على الحسابات المادية التي يُعملها الفرد، فعن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم (إن الرزق لا يجره حرص حريص، ولا يصرفه كراهية كاره)، وعن الإمام علي عليه السلام (لو جرَت الأرزاق بالألباب والعقول، لم تعش البهائم والحمقى). ومن نماذج هذه المعادلات:
1ـ الإنفاق في سبيل الله لا يُنقص رصيدك: قال تعالى (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) سـبأ:39، وعن الإمام علي عليه السلام (استنزلوا الرزق بالصدقة).
2ـ الصدق في المعاملة يجلب البركة: فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا مُحقت بركة بيعهما).
3ـ شكر النعم يبارك فيها: قال تعالى (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) إبراهيم:7.
4ـ المال الحرام يمنع الرزق: عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (كثرة السُّحت يمحق الرزق).
5ـ صلة الرحم تنمّي الرزق: كتب الإمام علي الرضا، وهو في مدينة مرو بخراسان، لابنه محمد الجواد، وهو في المدينة المنورة (يا أبا جعفر، بلغني أن الموالي إذا ركبت أخرجوك من الباب الصغير، وإنما ذلك من بخل لهم لئلاّ ينال منك أحد خيراً، فأسألك بحقي عليك لا يكن مدخلك ومخرجك إلاّ من الباب الكبير، وإذا ركبت فليكن معك ذهب وفضة، ثم لا يسألك أحد إلاّ أعطيته. ومن سألك من عمومتك أن تبرّه فلا تعطه أقلّ من خمسين ديناراً، والكثير إليك. ومن سألك من عماتك فلا تعطها أقلّ من خمسة وعشرين ديناراً، والكثير إليك، إني أريد أن يرفعك الله، فأنفِق ولا تخشَ من ذي العرش إقتاراً).
ثانياً ـ التمييز بين المعاملات المشروعة والمحرّمة:
ومن نماذج ذلك قوله سبحانه (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) البقرة: من الآية275.
ثالثاً ـ التعرف على آداب وأخلاقيات التعامل الاقتصادي:
من قبيل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (رحم الله عبداً سمحاً إذا باع ، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى). توضيح : (قضى أي وفى ما عليه ـ اقتضى أي طلب قضاء حقه).
رابعاً ـ التعامل الأفضل مع متغيرات الحياة الاقتصادية:
وهي السياسة الاقتصادية التي انتهجها النبي يوسف عليه السلام بمراقبة الاستهلاك، قال تعالى على لسانه (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) يوسف:47، وعن الإمام علي عليه السلام (ما عالَ امرؤٌ اقتصد).
خامساً ـ الرضا والقناعة الصادقة:
بما قسمه الله سبحانه له من رزقٍ بعد إعمال الجهد في الكسب والتطوير، مما يُكسب الفرد راحة نفسية إلى أبعد حد، ويجنّبه الوقوع في طرق الكسب غير المشروعة واللاأخلاقية كالاحتكار، فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ألا وإنّ الروح الأمين نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحمل أحدكم استبطاء شئ من الرزق أن يطلبه بغير حله، فإنه لا يُدرَك ما عند الله إلا بطاعته).
سادساً ـ تجنب آفة البخل والتقتير:
خشية الفقر، فعن الإمام الحسن العسكري عليه السلام : (إن للاقتصاد مقداراً، فإن زاد عليه فهو بخل).
سابعاً ـ تجنب الإسراف والتبذير:
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) الأعراف: من الآية31، ولا يقتصر الأمر على الأكل والشرب، بل يمتد ليشمل كافة المجالات، كما أن الوفرة لا تعني السماح بالإسراف، وما يُقـنّن الإنفاق في المرتبة الأولى هو الثقافة التي يحملها الفرد نفسه بعيداً عن حسابات الثواب والعقاب.