خطبة الجمعة ـ الأولى ـ 17 صفر 1433 ـ في ذكرى الأربعين الحسينية


ـ في محطات بارزة من التاريخ الإسلامي كان اسم الحسين يرعب قلوب الظالمين بالمستوى الذي يعلنون فيه الحرب على زائري مرقده الشريف، لأنهم يعلمون أن ذكر الحسين يقترن بزلزلة عروش الباطل والظلم والطغيان.
ـ وبين أيدينا نصوص عديدة نقلتها كتب التاريخ عن صور من محاربة زيارة الحسين(ع) في العهدين الأموي والعباسي، ومنها هذه الصورة التي نقلها الحسين بن أبي حمزة الثمالي قال: (خرجت في آخر زمان بني مروان إلى زيارة قبر الحسين عليه السلام مستخفياً من أهل الشام حتى انتهيت إلى كربلاء فاختفيت في ناحية التربة حتى إذا ذهب من الليل نصفه أقبلت نحو القبر..).
ـ وقد دفع الأئمة(ع) نحو الإصرار على إحياء هذه الشعيرة ولو في مثل تلك الظروف العصيبة، قال ابن بكير للصادق: (إني أنزل الأرجان وقلبي ينازعني إلى قبر أبيك فإذا خرجت فقلبي وجل مشفق حتى أرجع خوفاً من السلطان والسعاة وأصحاب المسالح! فقال: يابن بكير أما تحب أن يراك الله فينا خائفا؟ أما تعلم أنه من خاف لخوفنا أظله الله في ظل عرشه وكان محدّثه الحسين عليه السلام تحت العرش؟ وآمنه الله من أفزاع يوم القيامة يفزع الناس ولا يفزع، فإن فزع قوّته الملائكة وسكنت قلبه البشارة).
ـ وأتى هذا الإصرار بثماره، وصار المرقد الطاهر مهوى أفئدة الناس، سواء من الذين كانوا يوالون آل البيت في عقيدتهم أم لم يكونوا كذلك. يسأل أحدهم الإمام الكاظم (ع) اسمه قائد: (جعلت فداك إن الحسين عليه السلام قد زاره الناس، مَن يعرف هذا الأمر ومن ينكره، وركبت إليه النساء، ووقع حال الشهرة، وقد انقبضت منه لما رأيت من الشهرة ـ تحول إلى حالة استعراضية عند البعض ـ قال: فمكث ملياً لا يجيبني، ثم أقبل علي فقال: يا عراقي، إن شهروا أنفسهم فلا تشهر نفسك أنت، فوالله ما أتى الحسين آت عارفاً بحقه إلا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر).
ـ ولما عجزت بعض السلطات الظالمة عن إيقاف هذه الحركة الجماهيرية التي طالما أرعبت قلوبهم، لجؤوا إلى وسائل أخرى من قبيل ما قام به المتوكل من تدمير للمرقد المبارك ومحو آثاره، قال أبوالفرج الأصفهاني: (بعث برجل من أصحابه يقال له الديزج وكان يهودياً إلى قبر الحسين وأمره بكرب قبره ومحوه وإخراب كل ما حوله، فمضى لذلك وخرب ما حوله وهدم البناء وكرب ما حوله نحو مائتي جريب، فلما بلغ إلى قبره لم يتقدم إليه أحد، فأحضر قوماً من اليهود فكربوه وأجرى الماء حوله ووكل به مسالح بين كل مسلحتين ميل لا يزوره زائر إلا أخذوه ووجهوا به إليه).
وفي نص آخر لأبي الفرج: (لا يجدون أحداً زاره إلا أتوه به فقتله أو أنهكه عقوبة).
ـ وتمر السنون بين مد وجزر، ولم يختلف المشهد كثيراً في العهد البعثي، ففي عام 1977 صدر الأمر بمنع المواكب الحسينية، وبثت القوات الأمنية والدبابات ورجال المخابرات في ذكرى الأربعين، وأصر الناس على الخروج، وبدأ الزوار حركتهم مشياً على الأقدام متحدين بذلك أوامر السلطات، يدفعهم إلى ذلك حبهم للحسين ولما روي عن الإمام الصادق(ع) : (من خرج من منزله يريد زيارة قبر الحسين عليه السلام ماشياً، كتب الله له بكل خطوة حسنة ومحى عنه سيئة) وتحولت زيارة الحسين (ع) إلى حركة احتجاجية سلمية ضد الطغيان البعثي، فما كان من النظام إلا أن استخدم الطائرات والدبابات وأراق دماء الزائرين، واعتقل الكثيرين ممن أعدموا بعد ذلك أو عذِّبوا في سجونه.
ـ وبعد سقوط النظام الصدامي عادت الجماهير الغفيرة لتؤكد إحياء زيارة سيد الشهداء مشياً على الأقدام ولمسافات طويلة، بكل ما تحمله من دلالات كثيرة، وفي مسيرات مليونية لا مثيل لها، لتتحدى كل المخاطر وكل الأعمال الإرهابية التي لا تفرق بين رجل وامرأة وبين كبير وصغير، فللحسين ولذكرى استشهاده حرارة في قلوب المؤمنين، حرارة لا تنظفئ أبداً.
ـ اللهم إن زائري مرقد عبدك ووليك سيد الشهداء(ع) قد وفدوا راجلين شعثاً غبراً، لا يبعثهم على ذلك إلا حبهم للحسين، اللهم فسلّم زوار الحسين من كيد الباغين والقاسطين والمارقين، وأجزل لهم الثواب من عندك، وأرجعهم إلى أهلهم سالمين غانمين، ورد كيد أعدائهم إلى نحورهم إله الحق آمين.