الاستغناء والطغيان

(كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) العلق:6-7. قد يتصور البعض أن الآيتين تخصّان فقط بعض الأغنياء من أصحاب الثروات الذين يدفعهم هذا الغِنى إلى الطغيان، كما قال سبحانه: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) القصص:76، بحيث يدفعهم الشعور بالغِنى عن الناس إلى الترفع عليهم و تحقيرهم والسعي لتسخيرهم وسحق إرادتهم، للسيطرة بالتالي على المجتمع والتصرف في الشؤون العامة كيفما شاؤوا.
طغيان العلماء:
إلا أن التمعن في دلالتهما يعطينا بُعداً أوسع، فالشعور بالغِنى قد يكون أيضاً بامتلاك رصيد وافر من العلم الذي يشعر معه الفرد بأن لديه ما ليس عند الآخرين، فيدفعه هذا إلى الاستعلاء والطغيان والتكبر عليهم، والاستهزاء بعقولهم، وتحقير معارفهم أو استغلال جهلهم من أجل تحقيق مصالح شخصية. وقد روي عن الإمام محمد الباقر عليه السلام أنه قال: (مَن طلب العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، فليتبوأ مقعده من النار، إن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها).
طغيان الامتداد السياسي:
والشعور بالغِنى قد يكون أيضاً من خلال الامتداد السياسي الذي يحققه الفرد أو تحققه الجماعة الدينية أو الحزب، فيكون ذلك منطلقاً لا للارتقاء بالمجتمع وخدمة الناس، وتوظيف هذا الامتداد في حل مشكلاتهم وقضاء حوائجهم، بل للطغيان عليهم وتحقيق المصالح الشخصية أو الفئوية. وغالباً ما يكون المجتمع هو الذي يفتح المجال لبعض الأفراد أو اجماعات أن تكون لهم مثل هذه السيطرة والاستغلال قال تعالى: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) الزخرف:51-54.
طغيان بالموروثات:
والشعور بالغِنى أيضاً قد يكون من خلال العنوان الذي ورثه الإنسان، كالانتساب إلى أسرة ذات امتياز سلطوي أو اجتماعي أو ديني، فيدفعه هذا إلى الاستعلاء والطغيان والتكبر على الناس، والسعي لتسخيرهم من أجل تحقيق مصالح شخصية. وينطبق عليه قوله سبحانه: (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى).
موقفان لسيد الساجدين:
وللإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام في هذا الإطار موقفان ولا أروع: الموقف الأول: (قيل له عليه ‏السلام: إذا سافرت كتمت نفسَك أهلَ الرفقة، فقال: أكره أن آخذ برسول الله صلى‏الله‏ عليه ‏وآله ما لا أعطي مثله) .فالإمام يتخوّف أن يصدر منه ما يعتبره نحواً من الاستغلال لانتسابه لرسول الله، من خلال خدمة الآخرين له.. فهو يرى أن لهذا الامتياز النّسَبي مسؤوليات تحتّم عليه أن يعطي ـ على الأقل ـ بقدر ما يأخذ من خلالها. ولذا قال في موقع آخر: (ما أكلت بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً قط).
والموقف الثاني: (قال طاوس: رأيت رجلاً يصلي في المسجد الحرام تحت الميزاب يدعو ويبكي في دعائه فجئته حين فرغ من الصلاة، فإذا هو علي بن الحسين عليه السلام فقلت له: يا ابن رسول الله رأيتك على حالة كذا، ولك ثلاثة أرجو أن تؤمنك من الخوف، أحدها: أنك ابن رسول الله، والثاني: شفاعة جدك، والثالث: رحمة الله. فقال: يا طاوس، أما أني ابن رسول الله صلى الله عليه وآله فلا يؤمنني، وقد سمعت الله تعالى يقول: [فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ]، وأما شفاعة جدي فلا تؤمنني لأن الله تعالى يقول: [وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى]، وأما رحمة الله فإن الله تعالى يقول إنها قريبة من المحسنين، ولا أعلم أني محسن). يقول هذا وهو الإمام زين العباد، ذو الثفنات، سيد الساجدين.
قابلياتنا:
إن في كل واحد منا القابلية لأن يتحول إلى طاغوت، ولو في نطاق ضيق.. ووقود ذلك هو الشعور بالغِنى الممتزج بالتعالي والاحتقار للآخرين.. وهذا ما حرص إمامنا زين العابدين عليه السلام أن يؤكده من خلال الكلمات التالية في دعاء مكارم الأخلاق، قال: (وَأغْنِنِي وَوَسِّعْ عَلَيَّ فِي رِزْقِكَ وَلا تَفْتِنِّي بِالَّنَظِر، وَأَعِزَّنِي وَلا تَبْتَلِيَنِي بِالكِبْرِ، وَعَبِّدْنِي لَكَ وَلا تُفْسِدْ عِبادَتِي بِالعُجْبِ، وَأَجْرِ لِلْناسِ عَلى يَدَيَّ الخَيْرَ وَلا تَمْحَقْهُ بِالمَنِّ، وَهَبْ لِي مَعالِي الاَخْلاقِ، وَاعْصِمْنِي مِنَ الفَخْرِ ، اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَلا تَرْفَعْنِي فِي النَّاسِ دَرَجَةً إِلا حطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَها، وَلا تُحْدِثْ لِي عِزّا ظاهِرا إِلا أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً باطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِها).