خطبة الجمعة ـ الثانية ـ 12صفر1433ـ مقتضيات الكرامة الإنسانية


ـ (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) الإسراء:70.
ـ للعناوين المشتركة بين الناس دورٌ في رسم طبيعة العلاقة والمشاعر المتبادلة فيما بينهم.
ـ فمن الطبيعي أن تجد لوحدة العنوان الذي يجمعك بالآخر الأثر في قوة مشاعرك تجاهه.. فعندما تلتقي بأحد أبناء بلدك وأنت على بعد آلاف الكيلومترات، فإن مشاعرك تجاهه تكون قوية، لربما مع وجود اختلافات كثيرة بينك وبينه من حيث الانتماء الأسري والعرقي وغير ذلك.. إلا أنك تتناسى كل ذلك وتركز على ذلك العنوان المشترك.
ـ ومن الطبيعي أن يكون لوحدة الانتماء أثرٌ في تنظيم وقوة العلاقة.. فالعلاقة بين المنتمين إلى دين واحد عادة ما تكون أوثق من غيرها، ويتم تناسي الكثير من الفروقات كالانتماء الوطني والقومي، بسبب تقديم ذلك العنوان على سواه.
ـ ولربما كلما زادت العناوين المشتركة بين الطرفين كلما توقعنا علاقة أقوى ومشاعر أقوى.
ـ ومن النصوص الإسلامية ما يؤكد ويشجع على ذلك في دائرة الانتماء إلى الإسلام، كقوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) التوبة:71، وقوله سبحانه: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) الحشر:9. وقول النبي(ص): (المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً) وغير ذلك كثير، وهي تؤكد على فضل الإسلام ومدخليته في كمال الشخصية وفي قيمة الإنسان عند الله، وفي تفاصيل نُظُم العلاقة بين المسلمين.
ـ ومن النصوص ما ينظّم أولوليات العناوين المشتركة، كقول الله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) التوبة:23. وقول النبي(ص):
(أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلا لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلا بِالتَّقْوَى).
ـ ولكن كل هذا لا يعني ازدراء مَن هم خارج تلك الأطر، ولا انتهاك حرماتهم وحقوقهم المادية والمعنوية ما دامت الأمور والعلاقات في سياقها الطبيعي.
ـ وقد جلبت هذه النظرة الإزدرائية والإستعلائية الويلات والدمار للبشرية على طول التاريخ، سواء أصدرت من منطلق ديني أو قومي أو غير ذلك. ولك أن تقرأ التاريخ في بعض أسباب الحروب بين اليونان والفرس، والرومان والفرس، والحرب العالمية الثانية وعلاقتها بالنازية العنصرية، وغير ذلك كثير لتتجلى الصورة بشكل أوضح.
ـ في القرآن الكريم تنديد بذلك، قال سبحانه: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) آل عمران:75-76. وكان منطلق ذلك في الأصل: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) المائدة:18. فهذه النظرة الإستعلائية ولّدت حالة من الازدراء للآخر المختلف، وأخرجته من الدائرة الإنسانية بإهدار كرامته، فاستباحت ممتلكاته وحرماته. (استعلاء ـ ازدراء ـ استباحة)
ـ وللأسف يكرر بعض المسلمين نفس الأخطاء، بينما الآية في الوقت الذي تندد فيه بخطأ ذلك المفهوم وانحراف ذلك السلوك، ترسل رسالة للمسلمين أن الله لا يريد لهم أن يأخذوا بهذه النظرة ولا أن يتعاملوا مع غيرهم بهذا الأسلوب، فالمطلوب هو: (مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى) في كل تعاملاته ومع الجميع (فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ). فهذا أصل أخلاقي لا يتبدّل مادام أن الآخر لم يهدر كرامته وكرامتي الإنسانية من خلال إعلان الحرب عليّ، أو بسرقة أموالي وأمثال ذلك.
ـ ولذا نقول فالأصل أن للإنسان ـ أي إنسان ـ كرامة، وأن التعامل بين المسلم والآخر يجب أن يقوم على أساس احترام كرامة الآخر التي هي هبة إلهية: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) الإسراء:70، وقد قال العلامة الطباطبائي في تفسير الآية: (يظهر أن المراد بالآية بيانُ حالٍ لعامة البشر مع الغض عما يختص به بعضهم من الكرامة الخاصة الإلهية، والقرب والفضيلة الروحية المحضة، فالكلام يعم المشركين والكفار والفساق).
ـ وإلى هذا أشار الشيخ المنتظري بقوله: (نحن نعتقد أن القرآن إذ يقول: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ"، فهو يقصد أن بني آدم مكرّمون لأنهم بنو آدم، فحينما يقال حقوق الإنسان، معنى ذلك أن للإنسان شرفَه وكرامتَه بما هو إنسان، حتى لو كان كافراً، لأن الإنسان محترم بذاته عند الله، وهذا صريح معنى الآية. ويقول علي عليه السلام في عهده لمالك الأشتر: "الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"، وبالتالي فإن للإنسان حرمته بما هو إنسان).
ـ ولعل تأسيس هذا الأمر كأصل يكون من المنطلقات التي يعيد من خلالها الفقهاء المسلمون عموماً قراءة الأدلة المتعلقة بفقه العلاقة مع الآخر، من قبيل مسألة كراهة ابتداء غير المسلمين بالتحية، وحرمة تهنئتهم في أعيادهم، وأن لا يُترك للذمي صدر الطريق، وأن يُضطر إلى أضيق الطرق، وإباحة أموالهم وإن لم يكونوا حربيين، والحكم بنجاسة غير المسلم أو غير الكتابي، وغيرها من المسائل.. بل كيف يمكن أن تفتح قلب الآخر لتدعوه إلى الهدى، وقد بنيت بينك وبينه ألف حاجز وحاجز تحت عنوان النجاسة والاحتقار ونقص الإنسانية وغير ذلك؟ إن وفد نصارى نجران وإن لم يحترموا خصوصية مسجد النبي(ص) وتلوا صلواتهم فيه بغير استئذان وبحضور النبي، إلا أن رسول الله لم يسمح لأحد بالتعرض إليهم، ولم يطردهم لنجاستهم، ولم يقطع عليهم صلواتِهم.. وأقرَّهم أخيراً على دينِهم.. فهل من مدَّكر؟