خطبة الجمعة ـ الأولى ـ 12صفر1433ـ كريم أهل البيت


ـ من يتجول في السيرة المباركة لأهل بيت الرحمة عليهم السلام سيجد صوراً لا تُحصى من تجسيد القيم الإنسانية والأخلاق الإسلامية، ومن بينها قيمة السخاء والكرم والإيثار.
ـ وعندما نتوقف عند سيرة ثاني أئمة الهدى، فإن لقب (كريم أهل البيت) يستوقفنا ليعكس لنا صورة العطاء الواسع لهذا الإمام، عطاءً مادياً ومعنوياً وإيمانياً، فالكرم ليس مجرد بذل المال، بل هو إيثار الغير بالخير، وقد يكون هذا الخير خيراً علمياً أو معنوياًن كما قد يكون مادياً.
ـ وقد نقل لنا المؤرخون صوراً كثيرة من عطاء هذا الإمام المبارك، منها ما رواه أهل الحديث عن علي بن زيد بن جدعان قال: (خرج الحسن بن علي من ماله مرتين، وقاسم الله تعالى ماله ثلاث مرار).
ـ وقيل له مرة: (لأي شيء لا نراك ترد سائلاً؟ قال: إني لله سائل، وفيه راغب، وأنا أستحي أن أكون سائلاً، وأرد سائلاً، وأن الله عوّدني عادة: أن يفيض نعمه عليّ، وعوَّدتُه أن أفيض نعمه على الناس، فأخشى إن قطعت العادة أن يمنعني العادة).
ـ إن هذين النصين وغيرهما يرسمان ملامح سيرة العطاء عند هذا الإمام العظيم، مع الإلتفات إلى أن هذه الصور لا تتعلق العطاء الواجب الذي هو حق الله سبحانه فيما آتانا إياه من نعمه، بل هو من العطاء الاختياري.
ـ ومن المؤسف أن نجد بعض المصلين الصائمين الحاجين التالين لكتاب الله، الحريصين على زيارة المراقد الطاهرة والمحافظين على كل صور الارتباط بالنبي وآله صلوات الله عليهم بحضور مجالسهم وإحياء ذكرياتهم، نجدهم يتمرّدون على أمر الله في العطاء الواجب.
ـ إن القرآن أسَّس لمسألة العطاء منذ بدايات الدعوة إلى الإسلام، فقال سبحانه: (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى، وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى، إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى، وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالأُولَى، فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى، لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى، وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى) الليل:5-18. وغير ذلك من السور المكية التي تتحدث عن الزكاة وعن العطاء المالي.
ـ واعتبر أن المال الذي بيد الإنسان إنما هو ملك الله في الحقيقة، فقال: (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) النور:33، وأن الإنسان مؤتمن عليه، وأن عليه أن ينفقه في الخطوط العامة وفق إرادة المالك الحقيقي وهو الله، وأن من يتصرف بخلاف ذلك فإنما يتصرف فيما ليس بملك له، و يعرّض نفسه للعقوبة الشديدة.
ـ أما الذين يتذرّعون بعدم ثقتهم في الطريقة المتبعة في مركزية تجميع الأموال وإنفاقاتها، فأقول لهم: إنكم ـ من خلال هذا العذر ـ لن تتخلصوا من هذا الواجب الشرعي الذي تتلون آياته في القرآن، وعليكم أن تبحثوا بأنفسكم عن سبل إنفاقها بالصورة التي تبرئ ذمتكم أمام الله تعالى، لأن الله لن يقبل منكم هذا العذر الذي تسوقونه للتهرب من العطاء الواجب، والذي يُخاف أن يكون عذراً وهمياً للتهرب من أداء واجب شرعي.
ـ وأما الذين يتذرعون بعد اقتناعهم بأصل وجوب الخمس عليهم، فإذا سئلوا: هل أتيتم بالبديل؟ هل أخرجتم زكاة أموالكم؟ عادة ما يأتي الجواب منفياً، فلا خمّسوا ولا زكّوا.. أقول لهؤلاء مشكلتكم ليست في الخمس بل في حبكم للمال حباً جماً، مشكلتكم في حب الدنيا، مشكلتكم في البخل، لا في ما يجب عليكم من الخمس أوالزكاة.
ـ أما الذين لا يعطون الحق الشرعي، بل يوصون بإخراجه بعد مماتهم مما يتركونه للورثة فأقول لهم: إن هذا لا يخلّصكم من آثام أكل المال الحرام، و لن ينجيكم من المساءلة الإلهية، لأن هذا تكليفكم في المقام الأول لا تكليف الأوصياء. ثم هل تعلَّق الحق الشرعي بآخر ما امتلكتموه في حياتكم وما بقي منه؟
ـ إن علاقتنا بالنبي وآله ليست مجرد علاقة تكريم، بل هي في المقام الأول علاقة اقتداء واتباع، وقد روي عن النبي (ص) أنه قال لأصحابه يوماً: (ملعون كلُّ مالٍ لا يزكى).
ـ وسأل الإمام علي ابنه الحسن عليهما السلام: (ما الشح؟ قال: أن ترى ما في يديك شرفاً، وما أنفقت تلفاً).
ـ وعن الباقر(ع): (إن الله تبارك وتعالى قرن الزكاة بالصلاة فقال: "أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" فمن أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فكأنه لم يُقم الصلاة).
ـ وعن عن الرضا عن آبائه عليهم السلام، قال: (لما نزلت هذه الآية " وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" قال رسول الله صلى الله عليه وآله: كل مال يؤدَّى زكاته فليس بكنز، وإن كان تحت سبع أرضين، وكل مال لا يؤدى زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض).
ـ ونختم حديثنا بدعاء سيد الساجدين عليه السلام: (اللهم صل على محمد وآله، واحجبنا عن السرف والازدياد، وقومنا بالبذل والاقتصاد، وعلمنا حسن التقدير، واقبضنا بلطفك عن التبذير، وأجر من أسباب الحلال أرزاقنا، ووجِّه في أبواب البر إنفاقنا، وازو عنا من المال ما يحدث لنا مخيلة أو تأدياً إلى بغي، أو ما نتعقب منه طغيانا).