خطبة الجمعة ـ الثانية ـ 5صفر1433 ـ الشيخ علي حسن ـ لا تصنعوا الطغاة


ـ سأتناول هنا انطلاقاً مما جاء في الخطبة الأولى موضوعين، الأول يخص توديعنا لهذا العام الميلادي الذي فاجأ العالم بأسره في حجم الثورات والحركات الاحتجاجية التي انطلقت في دول عربية مختلفة، وأدت إلى تهاوي عروشٍ في أيام قلائل، وإلى تغيرات في المشهد السياسي وفي موازين القوى في المنطقة بشكل كبير، واضطرت بعض الحكومات إلى المسارعة في إنجاز بعض الإصلاحات هنا وهناك تفادياً لمصير مشابه أو أوضاعٍ مضطربة تقض مضاجعها.
ـ وما يمكن أن يثار في هذا الإطار قضايا كثيرة تناولتُ بعضاً منها خلال خطب سابقة، ولكن أود أن أتوقف عند نقطة واحدة فقط وهي أن الطواغيت مهما تجبروا واستقووا فإن كل واحد منهم لا يعدو أن يكون بقوة فرد واحد فقط.. وأن الذين يتعصّبون له من أبناء عشيرته أو أفراد حزبه هم الذين يجعلونه بقوة عشرة آلاف.. الطاغية ليس إلا فرد، والذين يصفقون له ويرفعونه على أكتفاهم هم الذين يعطونه القوة ويجعلونه بقوة مائة ألف.. الطاغية ليس إلا فرد، والذين يعملون في أجهزته المخابراتية والقمعية هم الذين يزرعون في قلوب الناس اليأس من زوال الكابوس الذي يرزحون تحت نيره، ويصوّرون للناس أنه بقوة مليون رجل.
ـ لقد أكّدت تلك الثورات أن الشعوب ـ في المقام الأول ـ هي التي تصنع الطغاة، وتجعل الإنسانَ الضعيف طاغيةً، وتمدُّ له في القوة ليظلمها.. فالطغاة إنما يظلمون الشعوب بقوة الشعوب. لكن متى ما تجلّت الإرادة الصادقة والعزيمة القوية لإزاحة هذا الكابوس، وتحوّلت الأكف المصفقة إلى قبضات ترتفع في وجه الظلم، اتضحت الصورة الحقيقية، وتبيّن أن كل هذا الطغيان.. وكل هذا الجبروت.. لا يعدو أن يكون نمراً من ورق، ليقبع هذا الطاغوت طريداً في المنفى
أو ذليلاً خلف القضبان، أو قتيلاً وهو يتوسل فوهات البنادق أن ترحمه.
ـ القضية الثانية ترتبط بوضعنا الداخلي في الكويت فيما يخص الانتخابات:
ـ قال تعالى: (وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) الأنفال:45-46.
ـ هل سقطنا أمام المد الطائفي والحزبي والقبلي، أم ما زال بيننا من يحملون المسؤولية كما حملها أمير المؤمنين علي عليه السلام الذي قال: (لَقد عَلِمتُم أني أحَقّ الناس بها من غيري، وَوَالله لأسَلِّمَنَّ ما سَلِمَت أمور المسلمين، ولم يَكن فيها جَور إلا عَلَيَّ خاصَّة، التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه).
ـ هل ستمثّل الانتخابات التي نعيش أحداثها الرصاصةَ التي ستُطلَق لتقضي على كل الجهود الخيّرة التي بُذلت في الكويت لإعادة حالة التعايش بين مكونات هذا المجتمع في صورتهما الطبيعية التي كان يعيشها فيما مضى، والتي عمل المخلصون من أجل إحيائها في العقود الأخيرة؟
ـ مع التأكيد على كلمة (طبيعية)، فهناك حالة من التقارب والتعايش يسعى إليها البعض ولكن بصورة مصطنعة يفرضها ظرف سياسي ضاغط أو مصلحة انتخابية مؤقتة أو غير ذلك من العناوين التي لا تعمّق مفهوم التعايش الإنساني الذي طرحه القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرت:13، ليبقى هذا التقارب والتعايش حالة متزلزلة هشة (فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ) الكهف:45، وليتخلى عنها دعاتها متى ما تغير الظرف السياسي وتبدلت المصالح الانتخابية.
ـ أما التقارب والتعايش الذيْن ننشدهما فيقومان على أسس فطرية إنسانية إيمانية وأخلاقية متجِّذرة في النفس من خلال العودة إلى صفاء الروح وطهارة القلب وتعاليم القرآن حيث قال سبحانه: (وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) الأنفال:45.
ـ أعلم أن هذا الكلام لا يُعجب الكثيرين، خصوصاً من يعيشون جعجعة الحركة الانتخابية بكل أجوائها الطائفية والعنصرية والقبلية المحمومة، ولكن هل تحولت الانتخابات إلى صنم نعبده، ومجلس الأمة هو المعبد الذي نذبح فيه القرابين لها؟ إن كان الجواب بالنفي فعلامَ تناسينا كل المبادئ والقيم الإنسانية والإسلامية في طريق التنافس الانتخابي؟
ـ إننا في الوقت الذي نفتخر فيه بأن الكويت كانت سبّاقة في تأسيس المجلس النيابي والمشاركة الشعبية في إدارة البلاد، إلا أننا لا نريد لهذا الإنجاز ـ في الوقت نفسه ـ أن يغدوَ سبباً لتمزيق البلد وتفكيك المجتمع وتفريق مكوناته.
ـ أنا لا أريد أن أتبرأ من انتمائي لمدرسة أهل البيت، وأنت لا تريد ذلك، كما أن الآخرين لا يتبرؤون من انتماءاتهم المذهبية، ولكن دعونا لا نحوِّل هذه الانتماءات إلى معاول هدم للمجتمع من خلال توظيفها سلبياً في الآلة الانتخابية.
ـ ثم تحذرنا الآية من هذا النموذج: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) الأنفال:46، سواء أكان فرداً أم كان جماعة، هذا النموذج الذي يعيش حالة من الطغيان في النعمة، وفي القوة وفي الامتداد والنجاح الذي يحققه، ليعيش بذلك حالة من الزهو.. هذا النموذج الذي يعمل، ولكن ليس إخلاصاً للقضية التي يعلن أنه خرج من أجلها.
ـ الكل يتكلم عن الكويت ومصلحة الكويت والمصلحة العامة، ولكن للأسف قليلون هم الصادقون.. والحق أن هذا النموذج إنما خرج رياءً وفي حالة استعراضية يحاول من خلاله الإيحاء للناس بقوته، ليراه الناس وليقولوا عنه ما يحب أن يقال فيه من كلمات المدح والثناء، والواقع في حركته أنه يعمل لذاته أو لحزبه أو لجماعته أو لقبيلته، ولذا فلا مانع عنده أن يدمِّر القضية التي يتظاهر بتبنيها والعمل من أجلها، ولا مانع عنده أن يدمِّر المجتمع الذي سانده وانطلق خلفه، مادام أن حركته هذه ستصب في المصلحة الخاصة في نهاية المطاف.
ـ لقد قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) يونس:22-23. ولنتذكر أن بأيدينا أن نصنع من المرشحين طغاةً يدمِّرون ما بقي من عناصر قوة في هذا المجتمع، وأن بأيدينا أن نوصل الذين يشترون أصواتنا ليبيعونا ويبيعوا مصلحة البلد بعد ذلك في أسواق عصبياتهم ومصالحهم، فالمجلس في نهاية المطاف هو صنيعة أيدينا.