وبشّر الصابرين

قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) البقرة:155-157.
البشارة في الآية تفتح بوابة الأمل والتفاؤل للإنسان المؤمن لكي ينظر إلى الجانب المشرق من هذه المصيبة النازلة به، والابتلاء الذي حلّ، الجانب لأنه قد آمن بأن وجوده لا يقتصر على هذه الدنيا، بل يمتد إلى حياة أخرى، هي الحياة الحقيقية.. وفيها سيكون العطاء الإلهي للصابرين غير محدود، فالصابرون لا يقدَّر أجرُهم بزنة عملهم: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) الزمر:10، فالعطاء مفتوح وممتد بلا حدود ولا انقطاع.. بل ذهب بعض المفسرين إلى أن الآية تشير إلى أن الصابرين أيضاً لا يُحاسبون قبل دخول الجنة، فهم يدخلونها مباشرة بلا حساب.
تكامل الصبر:
وفي اليقين بهذه البشارة العظيمة تسكينٌ للنفس وتهدئة للخواطر.. فالمصيبة وقعها عظيم، وطاقة الإنسان محدودة، ويُخاف أن يتحول الحزن إلى جزع محرَّم، أو أن يتحول الألم بالمصاب إلى مرض يصيب النفس، لذا فإن الإنسان بحاجة إلى سيطرة على كل هذا الحزن وكل هذه الآلام من خلال التسليم والرضا.
فإنما يتكامل الصبر من خلال التسليم والرضا، فقد يصبر الإنسان كارهاً للابتلاء، ولهذا أجر ومقام، ولكن الأحسن والأرقى من ذلك أن يكون صبرُه جميلاً، كما في قوله سبحانه: (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً) المعارج:5. وهذا هو الذي تجلى في كلمة العقيلة زينب عليه السلام حين خاطبها ابن زياد مستهزئاً: (كيف رأيتِ صنع الله بأخيكِ وأهلِ بيتك؟) قالت: (ما رأيت إلا جميلاً).
فكل ذلك الابتلاء الذي جرى في كربلاء وما بعده والذي لا يشبهه ابتلاء، إنما كان في عين بطلة كربلاء أمراً جميلاً مادام أنه بعين الله سبحانه، ومادام أنه من قضاء الله وقدره، ولأنها فتحت قلبها للجانب المشرق من الابتلاء. وإذا رأى المؤمنُ هذا الابتلاء جميلاً فيلزم منه أن يكون صبرُه جميلاً أيضاً.. والصبر الجميل إنما يكون بأن يسلّمَ الإنسانُ أمرَه لله سبحانه، ثم يرضى بما قسمه الله له، وهذا ما تجلى في الكلمات الأخيرة لسيد الشهداء(ع) وهو يهوي من فرسه في ميدان القتال ويجود بنفسه الشريفة: (إلهي رضاً بقضائك، وتسليماً لأمرك، لا معبود سواك).
الاستغراق في المأساة:
إن الذين يستغرقون في مآسيهم وابتلاءاتهم حزناً وبكاءً لن يغيّروا من خلال هذا الحزن وهذا البكاء شيئاً من واقع أوضاعهم.. فهم لن يعيدوا ما فقدوه.. إنساناً عزيزاً كان، أم مالاً مدَّخراً، أم غير ذلك.. كما أنهم لن يرضوا الله بكل هذا الحزن والبكاء الذي قد يودي بهم إلى حالة من السُّخط على قضائه وقدره، مما قد يُحبِطَ أجرهم عنده.