كونوا مع الحسين - الشيخ علي حسن

الناس بطبعهم يميلون إلى الإنسان الصادق.. الإنسان المعروف بمصداقيته قولاً وعملاً، ولذا نجد أن أهل مكة يبتهجون حين دخل عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد اختلفوا فيمن يضع الحجر الأسود في مكانه، لأنهم عرفوه بالصادق الأمين، إلا أنهم سرعان ما تبدّلت مواقفهم وعادوه وحاربوه واتهموه بشتى التهم، ومنها الكذب، حين دعاهم إلى توحيد الله عزوجل والإيمان بنبوته.. وما ذاك إلا لأن الناس متى ما تضاربت مصالحهم مع هذا الإنسان الصادق، فإنهم لن يبالوا بصدقه، وسيعادون فطرتهم قبل أن يعادوه.
ومن هنا جاء الخطاب الإلهي للمؤمنين كي يكونوا المبدئيين الذين لا يتخلّون عن موقفهم في الثبات مع الصادقين، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) التوبة:119.
مصداقية الشعارات:
ثم إن من أهم أسباب نجاح أية حركة إصلاحية أو ثورة تغييرية في الوصول إلى غاياتها، ثم في الاستمرار في تنفيذ برنامجها هو مصداقية الشعارات التي رفعتها. فمهما كانت الشعارات برّاقة فإنها ستتحول إلى لعنات تنصب على مطليقها إن لم تكن لهم المصداقية عند التطبيق. وهذا من أسباب نجاح الثورة الحسينية في تحقيق أهدافها، وإن كان تحقق ذلك أحياناً بصورة غير مباشرة وذلك من خلال الثورات اللاحقة التي انطلقت حينها في المجتمعات الإسلامية، والتي لم تكن لتنطلق لولا كسر ثورة الإمام الحسين عليه السلام حاجز الخوف في مواجهة الباطل.
خلود الثورة:
كما أن هذه المصداقية من أسباب خلود تلك الحركات الإصلاحية أو الثورات التغييرية، لأن المجتمعات قد تبقى تصفق للباطل خوفاً أو مجاملةً أو مصلحةً، ولكن هذا الباطل سيزول بعد مدة، وعندها ينزاح الخوف، وتتلاشى المصالح، ويتحول التصفيق إلى لعنات.. أما الثورة الحسينية فمصداقية الشعارات المرفوعة عند التطبيق حفظ لها الخلود.
فقد صدق الحسين عليه السلام حين قال: (لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد) وصدق الحسين حين قال: (هيهات منا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون) وصدق حين قال: (إني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما ) وصدق الحسين حين قال: (إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر).
وإن كانت الشهادة لم تمهل الحسين كي يؤكّد مصداقيته استمراراً فيما بعد الثورة، إلا أن الناس كانوا على يقين أنه صادق فيما قاله، وهم الذين عرفوه من خلال رسول الله الصادق الأمين الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى، عرفوا من خلاله أن الحسين سيد شباب أهل الجنة، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله منه، وأنه من رسول الله، وأن الله يحب من أحب الحسين، وأنه مصباح الهدى وسفينة النجاة.
كما عرفوه وآمنوا بمصداقيته من خلال سيرته الوضّاءة التي لم يجدوا فيها مصلحيةً ممقوتة أو حباً للدنيا أو إيثاراً للنفس أو ختلةً في قول أو فعل.
الربيع العربي:
واليوم إذ شهدت وتشهد المنطقة العربية كل هذا الحراك الثائر، فقد أفرزت على ساحة القرار والحكم أحزاباً إسلاميَّة تحمل شعارات الحرية والعدالة والتنمية، واستطاعت أن تكسب أصوات الناخبين في أكثر من موقع.. بدءً من تونس فالمغرب فمصر.. وهو المشهد القابل لأن يتكرر في مواقع أخرى مثل ليبيا، كما أن له حضوراً في غزة من قبل.
قد يقول قائل بأن الحرية في الانتخابات وضمان أكبر قدر ممكن من نزاهة التصويت هو الذي سمح للشعوب العربية كي تعبِّر عن رأيها الإيجابي في هؤلاء الإسلاميين، لمصداقيتهم في الشعارات التي طالما رفعوها، وأن الأجواء الإرهابية والتزوير في الانتخابات السائدة ما قبل الربيع العربي هو الذي كان يحجب هذه الحقيقة.
وقد يقول قائل أن نجاح الإسلاميين (المعتدلين) في تركيا هو الذي شجّع الشعوب العربية للتصويت للإسلاميين من ذوي الاتجاه المتفق أو القريب لسياسات حزب العدالة والتنمية التركي.. بل إن بعضهم استعار الاسم ذي الدلالة الشعارية الواضحة لدغدغة مشاعر الناس وإيصال الرسالة.. وقد وصلت بالفعل.
فرضية التحالف:
وقد يقال أن تحالفاً ما قد قام بين الغرب وبين هذه الأحزاب الإسلامية لقلب الطاولة على بعض الحكومات في المنطقة من خلال الثورات العربية، ومن ثَم إيصال هذه الأحزاب إلى الحكم عن طريق الزخم الشعبي، وذلك بهدف استباق الأحداث التي قرأ من خلالها الغرب قوة احتمال وصول الإسلاميين في هذه الدول وبأجندات يعتبرها الغربيون متطرفة، على أن يكون إيصالُهم إلى مواقع الحكم والقرار في هذه الدول بنجاحات غير كاملة الصورة، وبالتالي اضطرارهم إلى عقد تحالفات مع قوى ليبرالية وعلمانية لتطويعهم بحيث تجعل حراكهم السياسي غير بعيد عن النموذج التركي.
هذا من جهة.. ومن جهة أخرى لمواجهة ما أطلق عليه مسمى الهلال الشيعي الذي يؤرق الغرب لتهديده المستمر للكيان الصهيوني ولعدائه للسياسات الغربية، ولنجاحه في أكثر من مرة في اجتذاب تأييد الرأي العام السني في مواقع المواجهة مع الصهاينة، مما خلق حالة من التقارب المزعج للكيان الصهيوني وللغرب.
الحرب الباردة:
وأنا شخصياً وإن لم أقتنع إلى الآن بهذه الفرضية الأخيرة، إلا أنني كنت قد تحدثت قبل سنوات عن مخطط غربي لإدخال المنطقة في حرب باردة بين السنة والشيعة، وهذا ما حصل.. ولكن الهاجس الذي يؤرق البعض اليوم هو أن يكون بروز هذه المعادلة الجديدة على الأرض والتي تكتسب من خلالها تلك الأحزاب قوة وامتداداً، سيكون إيذاناً بدخول هذه الحرب الباردة في منعطف جديد، لتتحول إلى نوع من الصراع على الأرض لا سمح الله بين أتباع المذهبين وبصور مختلفة، لاسيما مع نضوج تلك الحرب الباردة والتي تنعكس بشكل متواصل في جعجعات القنوات الفضائية وفي تصريحات بعض القادة والسياسيين وعلماء الدين والرأي العام العربي.. ولعل ما رافق أحداث البحرين خير شاهد على ذلك.
فسواء اتفقنا مع الفرضية الأخيرة أم لم نتفق، يبقى هذا التخوف قائماً.. لا تخوفاً من استقواء الحركات الإسلامية السنية، فهم إخواننا في الدين، ويفترض أن تكون قوتُهم من قوتنا، وامتدادُهم امتداداً لنا، ولكن خوفاً من الأيادي التي تستغل التاريخ الطويل من الفتن بين الطرفين، ووجود المقومات الذاتية لنشوبها، فتسعى لإثارتها من جديد، لتبقى الساحة الإسلامية ممزَّقة، ولننشغل ببعضنا البعض، وليعود الصراع العثماني الصفوي بثوبه الجديد في المنطقة، وليتفرغ الكيان الصهيوني لمشاريعه وللتخطيط للمرحلة القادمة وفق متغيرات الخارطة العربية.
حراك دبلوماسي:
إنني أعتقد بأننا بحاجة إلى حراك شيعي دبلوماسي قوي تقوم به مرجعياتنا الدينية والسياسية للتواصل مع أصحاب القرار في الحركات الإسلامية في المنطقة العربية والإسلامية ككل من أجل تفويت الفرصة ما أمكن على أية مساع شيطانية تستهدف إدخالنا في مرحلة جديدة من الصراع السياسي المتلبس بلباس التعصب المذهبي. كما أعتقد أن على إخواننا في تلك الحركات أن يبعثوا برسائل تطمين صادقة تزيل هذه المخاوف، وتؤكد مصداقيتها في السعي لتحقيق المصالح الإسلامية العليا، وإن كان ذلك على حساب المصالح الشخصية أو الحزبية.