دمعة خرساء - شاعر الوجدانية: بدر شاكر السياب

عصفَت بيَ الذكرى فألقَت ظِـلَّها في ناظريَّ كواكبُ الصحراءِ
مبهورةُ الأضواء يغشى ومْضَها أشباحُ ركْبٍ لجَّ في الإسراءِ
أضفى عليه الليلُ سِتراً حِيك مِن عُرف الجِنان ومن ظِلال حِراءِ
أسرَى ونام.. وليس إلا همسةً باسمِ الحسين، وجهشةَ استبكاءِ
تلك ابنةُ الزهراءِ وَلْهَى راعَها حُلْمٌ ألمَّ بها مع الظَّـلماءِ
تُنبي أخاها وهي تُخفي وجهَها ذُعراً وتلوي الجِيدَ من إعياءِ
عن ذلك السهلِ الملبَّدِ يرتمي في الأفْق مِثلَ الغيمةِ السوداءِ
يكتظُّ بالأشباح ظمأى حَشرجَت ثم أشرأبَّت في انتظار الماءِ
مفغورةَ الأفواهِ إلا جثَّةٌ من غير رأسٍ، لُطِّخت بدماءِ
زحفَتْ إلى ماءٍ تراءى ثُمّ لم تبلغْه وانكفأت على الحصباءِ
غيرَ الحسين تصدُّه عما انتوى رؤيا.. فكُفـَّي يا ابنة الزهراءِ
بأبي عُطاشى لاغبـين ورًضَّعاً صُفرُ الشفاهِ خمائصَ الأحشاءِ
أيدٍ تُمَـدُّ إلى السماء وأعينٌ ترنو إلى الماء القريب النائي
طامٍ أحلّ لكل صادٍ وِرْدَه من سائبٍ يعوي، ومن رقطاءِ
عزَّ الحسينُ و جلَّ عن أن يشتري ريَّ الغليلِ بخُـطَّة نكراءِ
إلاّ يموت ولا يوالي مارقاً جمَّ الخطايا، طائشَ الأهواءِ
فليصرعوهُ كما أرادوا إنما ما ذنبُ أطفالٍ وذنبُ نساءِ
عاجَت عليَّ الذكرى علَّها ساعةٌ مرَّ الزمانُ بها على استحياءِ
خفَقَتْ لتكشفَ عن رضيعٍ ناحلٍ ذَبـُلتْ مراشفُه، ذُبولَ خِباءِ
ظمآن بين يدي أبيه كأنَّه فرخُ القَطاةِ يدفُّ في النكباءِ
لاحَ الفراتُ له فأجهشَ باسطاً يُمناهُ نحو اللُّجَّةِ الزرقاءِ
رَجِيَ الرواءَ فكان سهماً حزَّ في نحرِ الرضيعِ وضحكةِ استهزاءِ
فاهتزَّ واختلج اختلاجةَ طائر ظمآنَ رفَّ ومات قُربَ الماءِ
ذِكرى ألمَّت فاقشعرَّ لهولها قلبي وثارَ، وزَلزلت أعضائي
واستقطَرت عيني الدموعَ ورنَّقت فيها بقايا دمعةٍ خرساءِ
يطفو ويرسُب في خيالي دونَها ظلٌّ أدقُّ من الجناح النائي
حيران في قعر الجحيم معلَّقٌ ما بين ألسنة اللظى الحمراءِ