خطبة الجمعة ـ الثانية ـ 14 محرم 1433 ـ عاشوراء يوم الفرقان


ـ (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الأنفال:41.
ـ استعمل القرآن الكريم كلمة (الفرقان) بهذه الصيغة عدة مرات، تارة بخصوص القرآن الكريم وذلك قوله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) الفرقان:1، وتارة بخصوص التوراة: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ) الأنبياء:48، كما عبّر عن معركة بدر الكبرى بهذا العنوان (يوم الفرقان)، وهي ليست أسماء متكررة لمسميات مختلفة، بل صفة تشترك بها هذه الموصوفات.
ـ فالفرقان هو الحد الفاصل بين شئ وشئ، والقرآن فاصل بين الحق والباطل في العقائد والمعارف و بين وظيفة العبد وما ليس بوظيفة له.. وهكذا هي التوراة التي أنزلت على موسى(ع).. كما أن معركة بدر كانت الفاصل بين الحق والباطل، إذ كانت أول مواجهة قتالية كبرى بين التوحيد والشرك في تاريخ الإسلام، ومن خلال النصر الذي تحقق للمسلمين امتاز الناس إلى معسكرين وجبهتين.
ـ صحيح أن الذين وقفوا مع رسول الله(ص) في بدر ثلاثمائة أو يزيدون، وإن الذين وقفوا إلى جانب قريش لقتال رسول الله(ص) كانوا ألفاً أو يزيدون قليلاً، إلاّ أن هذه المواجهة كانت أعمق وأوسع من ظاهرها البسيط في العدد.
ـ فقد كان يقف من وراء المشركين من قريش في بدر جبهة عريضة من الشرك في الجزيرة وخارجها.. وتصاعُد الأحداث بعد هذا اليوم أثبت هذه الحقيقة.. وفي المقابل كانت تقف الجبهة الحديثة التكوّن التي ترفع لواء التوحيد والتي لم يتسنَّ لها أن تتحالف إلا مع بعض القبائل هنا وهناك.
ـ فيوم بدر إذن فرَّق الناس إلى شطرين متمايزين في الولاء، من خلالهما تلخَّصت صورة لصراع بقاء بين عقيدتين سيُكتَب لعقيدة التوحيد من خلالها الامتداد إلى أن يأذن الله بنهاية الأرض.
ـ يوم الفرقان الثاني في تاريخ الاسلام هو يوم عاشوراء، في صورة قريبة من حيث المشهد الإجمالي، فقد كان يقف الحسين(ع) مع ثلة صغيرة من أهل بيته وأصحابه، وفي الجانب الآخر، يقف عمر بن سعد مع جيش واسع، ومن ورائه ابن زياد، ومن ورائه ويزيد وسلطانه وملكه الواسع وأمواله الكثيرة وإمكاناته، وكلّ الموالين له والمستفيدين منه.
ـ وهو يوم فرقان لأنه:
1. يوم أوجد الحد الفاصل بين الحق والباطل، وشطر المسلمين إلى شطرين متمايزين في الولاء والأخلاق والفكر والخط والعقيدة.
2. لم يكن هناك التباس في أمر المعركة التي حدثت على أرض الطف، ولم يكن أحدٌ من المسلمين يومئذ يشك في أن الحسين(ع) يدعو إلى الله ورسوله وإلى الاستقامة على صرط الله المستقيم، وبالتالي فهو على هدى.. وأن يزيد بن معاوية قد تجاوز حدود الله، وجاهر بالفسق والفجور، وهو يجلس مجلس رسول الله (ص)، وبالتالي فهو على ضلالة.. فمن وقف مع الحسين وقف عن بيّنة، ومن وقف مع يزيد وقف عن بيّنة. وقليل من مشاهد الصراع بين الحقّ والباطل يمتلك هذا الوضوح الذي تمتلكه واقعة الطف.
ـ وقد كانت لخطابات الحسين(ع) الدور في تجلية الصورة بهذا الشكل، فقد وقف الحسين يوم عاشوراء بين الصّفين وقال مخاطباً جيش ابن زياد: (أمّا بعد، فانسبوني‌ فانظروا مَن‌ أنا، ثمّ ارجعوا إلي‌ أنفسكم‌ وعاتبوها فانظروا هل‌ يصلح‌ لكم‌ قتلي‌ وانتهاك‌ حرمتي‌؟! ألستُ ابنُ‌ بنت‌ِ نبيِّكم‌ وابن‌ُ وصيّه‌ وابنُ‌ عمّه‌ وأوّلُ‌ المؤمنين‌ المصدّق‌ لرسول‌ الله‌(ص)‌ بما جاء به‌ من‌ عند ربّه؟! أو ليس‌ حمزة‌ُ سيّدُ الشهداء عمّي‌؟ أو ليس‌ جعفرٌ الطيّار في‌ الجنّة‌ بجناحين‌ عمّي‌؟! أولم‌ يبلغكم‌ ما قال‌ رسول‌ الله‌ صلّي‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ لي‌ ولأخي: هَذَانِ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ فإن‌ صدّقتموني‌ بما أقول‌ ـ وهو الحقّ ـ واللهِ ماتعمّدتُ كذباً منذ علمتُ أنَّ اللَه‌ يمقت‌ عليه‌ أهلَه‌، وإنْ كذّبتموني‌ فإنّ فيكم‌ من‌ إنْ سألتُموه‌ عن‌ ذلك‌ أخبركم‌. سَلوا جابر بن‌ عبد الله‌ الأنصاريّ وأبا سعيد الخدريّ وسهل‌ بن‌ سعد الساعديّ وزيد بن‌ أرقم‌ وأنس‌ بن‌ مالك‌، يخبروكم‌ أنّهم‌ سمعوا هذه‌ المقالة‌ من‌ رسول ‌الله‌(ص) لي‌ ولأخي. أما في‌ هذا حاجزٌ لكم‌ عن‌ سفك‌ دمي ؟!).
ـ ثم قال عليه السلام: (لاَ وَاللَهِ لاَ أُعْطِيكُمْ بِيَدِي‌ إعْطَاءَ الذَّلِيلِ؛ وَلاَ أُقِرُّ لَكُمْ إقْرَارَ الْعَبِيدِ. يَا عِبَادَ اللَهِ! إِنِّي‌ عُذْتُ بِرَبِّي‌ وَرَبِّكُمْ أَن ‌تَرْجُمُونِ؛ وَأَعُوذُ بِرَبِّي‌ وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَيُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ. تَبّاً لَكُمْ أَيَّتُهَا الْجَمَاعَةُ وَتَرَحاً. أحِينَ اسْتَصْرَخْتُمُونَا وَالِهِينَ، فَأَصْرَخْنَاكُمْ مُوجِفِينَ؛ سَلَلْتُمْ عَلَيْنَا سَيْفاً لَنَا فِي‌ أَيْمَانِكُمْ؟ وَحَشَشْتُمْ عَلَيْنَا نَاراً اقْتَدَحْنَاهَا عَلَى ‌عَدُوِّنَا وَعَدُوِّكُمْ؟! فَأَصْبَحْتُمْ ألَباً لأعْدَائِكُمْ عَلَى ‌أَوْلِيَائِكُمْ بِغَيْرِ عَدْلٍ أَفْشَوْهُ فِيكُمْ، وَلاَ أَمَلٍ أَصْبَحَ لَكُمْ فِيهِمْ؟!).
ـ هذا الفرقان تجلى في الجو العام الذي انطبع به كل من المعسكرين في تصرفاته، وفق ما يفرضه الانتماء لمحور الولاية الإلهية، والانتماء للطاغوت.. فمعسكر لا يهتم إلا بنيل رضا الله والطاعة له وللإمام، ومعسكر لا يبالي بما
يرتكب من جرائم وحشية تندى لها البشرية، في مقابل أن ينال شيئاً من حطام الدنيا.
ـ ففي ليلة العاشر يوجه الحسين(ع) أخاه العباس(رض) ليطلب من القوم تأجيل القتال ليوم: (ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخرهم إلى الغدوة وتدفعهم عنّا العشية، لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني قد أحب الصلاة له وتلاوة كتابه والدعاء والاستغفار).
ـ وفي كتاب اللهوف للسيد ابن طاوس: (وَبات الحسينُ (ع) وأصحابُه ـ ليلةَ عاشوراء ـ وَلهم دويٌّ كَدويِّ النحلِ، مَا بَينَ راكع وساجد وقائم وقاعد، فَعبرَ عليهم مِنْ عسكرِ عُمر بنِ سَعد اثنانِ وَثلاثونَ رَجلاً، وَكذا كانت سجية الحسينِ (ع) في كَثرةِ صَلاتِه وَكمالِ صِفاته).
ـ وفي المقابل يتبجح الأخنس بن مرثد الخضرمي في رضّهِ للأجساد الطاهرة بعد استشهادهم، ففي اللهوف: (ثم نادى عمر بن سعد في أصحابه: مَن ينتدب للحسين عليه السلام فيواطئ الخيل ظهره وصدره؟ فانتدب منهم عشرة وهم.. فداسوا الحسين عليه السلام بحوافر خيلهم حتى رضوا صدره وظهره. قال الراوي: وجاء هؤلاء العشرة حتى وقفوا على ابن زياد فقال: أسيد بن مالك أحد العشرة عليهم لعائن الله:
نحن رضضنا الصدر بعد الظهر * بكل يعبوب شديد الأسر
فقال ابن زياد: من أنتم؟ قالوا: نحن الذين وطئنا بخيولنا ظهر الحسين حتى طحنّا حناجر صدرِه. قال: فأمر لهم بجائزة يسيرة. قال أبو عمر الزاهد: فنظرنا إلى هؤلاء العشرة فوجدناهم جميعا أولاد زناء).
ـ وعن فاطمة بنت الحسين(ع) قالت: (دخلت العامة علينا الفسطاط وأنا جارية صغيرة وفي رجلي خلخالان من ذهب فجعل رجل يفضّ الخلخالين من رجلي وهو يبكي فقلت: ما يبكيك يا عدو الله؟ فقال: كيف لا أبكي وأنا أسلب ابنة رسول الله؟! فقلت: لا تسلبني، قال: أخاف أن يجيء غيري فيأخذه. قالت: وانتهبوا ما في الأبنية حتى كانوا ينزعون الملاحف عن ظهورنا).
ـ إن علاقتنا بعاشوراء الحسين(ع) لا تنتهي عند حد ذرف الدموع واسترجاع التاريخ، بل تنطلق لتكون فرقاناً لمسيرتنا في الحياة، فمنها نتعلم أننا إذا كنا مع الحق فإننا نسير في الخط الذي يرتضيه الحسين، وإن كنا مع الباطل، الباطل السياسي أو الباطل الفكري أو الباطل السلوكي فإننا نسير في الخط المعادي للحسين.. ومنها نتعلم أن لا نتنازل عن مبادئنا للحصول على مكسب سياسي أو موقع متقدم.. اجتماعياً كان أو انتخابياً أو غير ذلك.. فالمبادئ هي التي ترسم معالم وحدود الخط الذي نسير عليه، فإما أن يكون صراطاً مستقيماً كصراط الحسين، وإما أن تكون سبلاً فتفرق بنا عن سبيل الله (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الأنعام:153.