ليالي عاشوراء- 11 -1433 - الشيخ علي حسن ـ حسينية دار الزهراء عليها السلام


ـ (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ، وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين) البقرة:194-195
ـ هل كان الإمام الحسين(ع) يعلم بما يصيبه في نهاية المطاف عندما بدأ مسيرتَه إلى كربلاء؟ وإذا كان يعلم ذلك فكيف جاز له أن ينطلق في مسيرته التي تؤدي به إلى القتل وذلك وقد نهت الآية عن إلقاء النفس في التهلكة؟
ـ في السيرة الحسينية عدّة نصوص تفيد أنه كان عالماً بمصيره، سواء من خلال أقوال جده رسول الله(ص) أو غير ذلك. وقد تناولتُ في ليالٍ ماضية بعضاً من النصوص التي تضمنت ذلك.. فكيف نفسر المسألة من الناحية الفقهية؟
ـ قال البعض: هذه من خصوصيات الإمام الحسين(ع) في تكاليفه الشرعية، فهو إمام، يجوز له ما لا يجوز لغيره، لأن دوره يختلف عن دور الآخرين، وهو أعرف بتكليفه، فليس لنا أن نخوض في الموضوع في دائرة التصور الشرعي في تكاليفنا.
ـ وأضاف آخرون أن ما يؤكد ذلك أن من النصوص ما يدل على أن كل إمام تصله التكاليف مكتوبة يرثها عن رسول الله(ص) أن افعل كذا أو لا تفعل كذا، فيلتزم بها. كالخبر المروي في الأصول من الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (إن الله عز وجل أنزل على نبيه صلى الله عليه وآله كتاباً قبل وفاته، فقال: يا محمد، هذه وصيتك إلى النجبة من أهلك، قال: وما النجبة يا جبرئيل؟ فقال: علي بن أبي طالب وولده عليهم السلام، وكان على الكتاب خواتيم من ذهب. فدفعه النبي صلى الله عليه وآله إلى أمير المؤمنين عليه السلام وأمره أن يفك خاتماً منه ويعمل بما فيه، ففك أمير المؤمنين عليه السلام خاتماً وعمل بما فيه، ثم دفعه إلى ابنه الحسن عليه السلام ففك خاتماً وعمل بما فيه، ثم دفعه إلى الحسين عليهما السلام، ففك خاتماً فوجد فيه أن اخرج بقوم إلى الشهادة، فلا شهادة لهم إلا معك واشْرِ نفسك لله عز وجل، ففعل، ثم دفعه إلى علي بن الحسين عليهما السلام ففك خاتماً فوجد فيه أن أطرق واصمت والزم منزلك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين، ففعل، ثم دفعه إلى ابنه محمد بن علي عليهما السلام، ففك خاتماً فوجد فيه حدِّث الناس وافتهم ولا تخافن إلا الله عز وجل، فإنه لا سبيل لأحد عليك، ففعل، ثم دفعه إلى ابنه جعفر ففك خاتماً فوجد فيه حدِّث الناس وافتهم وانشر علوم أهل بيتك وصدِّق آباءك الصالحين ولا تخافن إلا الله عز وجل وأنت في حرز وأمان، ففعل، ثم دفعه إلى ابنه موسى عليه السلام. وكذلك يدفعه موسى إلى الذي بعده، ثم كذلك إلى قيام المهدي صلى الله عليه).
ـ وقد بيّنت في بحث لي مفصّل حول هذه النصوص أنها روايات ضعيفة من حيث السند، وأن في دلالتها إشكال. ـ وعموماً لا أتفاعل مع الإجابة على هذا التساؤل بهذه الطريقة، وهي أقرب إلى التهرب منها إلى الجواب، وهي:
1. تجعل سيرة المعصوم وسلوكَه ومواقفه خارج نطاق الاقتداء، وهذا من دون شك مخالف للغرض من جعلهم موضع الأسوة الحسنة.
2. كما تجعل الفقهاء في ورطة حين يريدون الاعتماد على سنة المعصوم(ع) كمصدر ثان للاستنباط بعد القرآن الكريم، إذ لن يكون حينئذ معنىً لحجية فعل المعصوم الذي يمثل أحد عناصر سنته، وهي: قول المعصوم وفعله وتقريره، ما دام أن تكليف المعصوم يختلف عن تكليف عامة الناس.
ـ وبالتالي نحن بحاجة إلى أن نبحث عن إجابة أخرى للإشكال المطروح سلفاً، وهو: كيف نوفِّق بين النهي عن التهلكة وبين علم الإمام الحسين(ع) بأنه سيُقتَل وإصراره على المضي قدماً في هذا الاتجاه؟
ـ ويمكن أن يجاب عن ذلك بسؤال مقابل: ما المشكلة في أن يُقدِم الإنسان الرسالي الثائر المؤمن بأن قضيته تحتاج إلى تضحية بحجم ما جرى في يوم عاشوراء ـ أو أقل من ذلك ـ إن كان إصلاح الخلل الحاصل أو مواجهة الباطل المستكبِر تستدعي ذلك؟ ولماذا نعتبرها من مصاديق الآية الناهية عن إلقاء النفس في التهلكة كي نعتبر ذلك إشكالاً يواجه حركة الإمام الحسين الثورية؟
ـ وبمعنى آخر، إذا كان تعريض النفس لمواطن الموت بدافع شخصي بعيداً عن رسالية الغاية، وعن الدوافع التي يحكم العقل والشرع بضرورة العمل وفقها، فحينذاك يأتي الإشكال.. وإلا فلا.
ـ فلو أراد شخص يحمل السلاح القاتل أن يعتدي على عِرض الآخر وحرماته، فهل يُشكلون عليه عند إقدامه على الدفاع عن عرضه وحرماته وتعريض نفسه للقتل على يد المعتدي بأن ذلك من إلقاء النفس في التهلكة، وأن هذا منهي عنه شرعاً؟ أم أنه قد قام بتحمل مسؤوليته، ويتحول إلى بطل وشهم حتى لو زهقت روحه في هذا الطريق؟
ـ نعم لو أنه عرّض نفسه للموت لأنه لم يتحمل خسارة مبلغ من المال، أو لأنه فشل في اختبار دراسي، أو لأن حبيبته هجرته أو لغير ذلك من العناوين المشابهة، فإن الإشكال يكون في محله، وفعلُه سيكون من مصاديق الآية الناهية عن إلقاء النفس في التهلكة.
ـ ومن هنا كان الجهاد في ساحات الوغى من أعظم القربات إلى الله سبحانه، قال عز اسمه: (قل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) التوبة:51-52، إما النصر وإما الشهادة.. حتى في الظرف الذي كانت فيه قوة المسلمين هي الأقل والأضعف عتاداً كما في غزوة بدر الكبرى، وفي الخندق، وفي مؤتة التي واجه فيها المسلمون بقيادة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبدالله بن رواحة مع 3000 مسلم جيش الروم وحلفائهم من العرب وقوامه 200 ألف مقاتل.. الروم بما كانت تمثله من قوة عظمى في العالم أجمع، وفي عقر دارهم.. بما يتخطى به حدود الجزيرة العربية.
ـ في تاريخ الطبري أنه لما بلغ المسلمين عدد الروم وحلفائهم أرادوا أن يكتبوا للنبي(ص) ليرى فيهم رأيه: (فشجع الناسَ عبدُالله بن رواحة وقال: يا قوم والله إن الذي تكرهون لَلذي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم الا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة. فقال الناس: قد والله، صدق ابن رواحة.. ثم التقى الناس فاقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله(ص) حتى شاط في رماح القوم، ثم أخذها جعفر بن أبي طالب فقاتل بها حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم قاتل القوم حتى قتل) قال الرواي: (والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم قاتل القوم حتى قتل فلما قتل جعفر أخذ الراية عبد الله بن رواحة ثم تقدم بها وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ثم قال:
أقسمتُ يا نفسُ لتنزلنَّه * طائعة أو فلتكرهنه
إن أجلب الناس وشدّوا الرنه * مالي أراك تكرهين الجنة
قد طال ما قد كنت مطمئنه * هل أنت إلا نطفة في شِنّه)
ـ فالمهم هو تحمّل المسؤولية الجهادية في الموقف الذي يستدعي ذلك، حتى لو أدى ذلك إلى الموت.
ـ وفي ضوء ذلك نقول أن الإمام الحسين(ع) حدّد لنفسه ولأصحابه من أهل بيته وغيرهم المهمة الجهادية الموكولة إليه، ورأى فيها إلزاماً شرعياً فيما هي الأهمية الكبرى للمصلحة الإسلامية العليا.
ـ روى الطبري في تاريخه: [عن عقبة بن أبي العيزار إن الحسين خطب أصحابه وأصحاب الحر بالبيضة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن رسول الله(ص) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله(ص) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيِّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يُدخله مَدخله. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفئ وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وأنا أحق مَن غَيَّر. وقد أتتني كتبكم وقدِمت علي رسلُكم ببيعتكم أنكم لا تُسلموني ولا تَخذلوني، فإن تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله(ص)، نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم، فلكم فيّ أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم بنُكُر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمى مسلم، والمغرور من اغتر بكم، فحظُّكم أخطأتم ونصيبُكم ضيعتم، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه وسيُغني الله عنكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته].
ـ وفي كلمته الأخيرة أكّد أنه ماضٍ في طريق مواجهة السلطان الجائر المستحل لحرم الله الناكث لعهد الله المخالف لسنة رسول الله، ولو لم ينصروه، فهذه مسؤوليته التي لن يتخلى عنها ولو أدت إلى شهادته.
ـ واستشهد الحسين صلوات الله عليه، واستشهد أغلب من معه من الرجال، وسبيت النسوة والأطفال. كتب الطبري في تاريخه روايةً عن أبي مِخنَف: (ما هو إلا أن قُتل الحسين فسُرِّح برأسه مِن يومه ذلك مع خولي بن يزيد وحميد بن مسلم الأزدي إلى عبيد الله بن زياد، فأقبَل به خَولي فأراد القصر، فوجد بابَ القصر مغلقاً، فأتى منزلَه فوضعه تحت إجانة في منزله، وله امرأتان، امرأة من بني أسد والأخرى من الحضرميين يقال لها النوار ابنة مالك بن عقرب، وكانت تلك الليلة ليلةَ الحضرمية. قال هشام فحدثني أبى عن النوار بنت مالك قالت: أقبل خولي برأس الحسين فوضعه تحت إجانة في الدار ثم دخل البيت فأوى إلى فراشه، فقلت له: ما الخبر؟ ما عندك؟ قال: جئتُك بغنى الدهر. هذا رأس الحسين معك في الدار! قالت: فقلت: ويلك! جاء الناسُ بالذهب والفضة، وجئتَ برأس ابنِ رسول الله(ص)؟ لا والله لا يَجمعُ رأسي ورأسَك بيتٌ أبداً. قالت: فقمت من فراشي فخرجت إلى الدار فدعا الأسدية فأدخلها إليه، وجلستُ أنظر. قالت: فوالله ما زلت أنظر إلى نور يسطُعُ مثلَ العمود من السماء إلى الإجانة، ورأيت طيراً بيضاً ترفرف حولها. قال: فلما أصبح غداً بالرأس إلى عبيد الله بن زياد وأقام عمر بن سعد يومَه ذلك والغد، ثم أمر حُميد بن بكير الأحمري فأذّن في الناس بالرحيل إلى الكوفة، وحمَل معه بناتِ الحسين وأخواتَه ومَن كان معه مِن
الصبيان، وعليُّ بن الحسين مريض. قال أبو مخنف: فحدثني أبو زهير العبسي عن قرة بن قيس التميمي قال: نظرتُ إلى تلك النسوة لما مررن بحسينٍ وأهلِه وولدِه صِحنَ ولطمن وجوهَهن. قال: فاعترضتُهن على فرس..
قال: فما نسيت من الأشياء لا أنسى قولَ زينب ابنةِ فاطمة حين مرَّت بأخيها الحسين صريعاً وهي تقول: يا محمداه يا محمداه صلى عليك ملائكة السماء، هذا الحسين بالعرا، مرمَّل بالدِّما مقطَّع الأعضا. يا محمداه وبناتُك سبايا، وذريتُك مقتّلة، تَسفي عليها الصبا. قال: فأبكت واللهِ كلَّ عدوٍّ وصديق. قال: وقُطف رؤوس الباقين، فسُرِّح باثنين وسبعين رأساً مع شمر بن ذي الجوشن وقيس بن الأشعث وعمر بن الحجاج وعزرةَ بن قيس، فأقبلوا حتى قدموا بها على عبيد الله بن زياد).