ليالي عاشوراء- 10 -1433 - الشيخ علي حسن ـ حسينية دار الزهراء عليها السلام


ـ (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) المائدة: 32.
ـ من المبادئ الإسلامية المهمة، على المستوى الإنساني، مبدأ عصمة الدماء والنفوس والأعراض.
ـ الحديث عن هذا المبدأ يكتسب أهمية خاصة في وقتنا الراهن، بعدما شهدته وتشهده بلدان شتى من أعمال عنف تتسم بالوحشية المفرطة، تُنسب إلى بعض الجماعات التي تتسمى أحياناً بالجهادية وغير ذلك من مصطلحات مشتقة من الثقافة الإسلامية. ومن المعلوم أنها شوّهت ـ وما زالت تشوّه ـ صورة الإسلام، حتى تم تصوير الإسلام في الإعلام الغربي بالملة التي تسترخص الدماء وتستهين بإنسانية الإنسان.
ـ القاعدة الأساسية في الإسلام هي عصمةُ الدماء ومحقونيتُها وحرمتُها، بغض النظر عن هوية أصحابها الدينية والمذهبية، لأنّ القتل وسفك الدماء ظلم بحكم العقل، وما كان ظلماً كان قبيحاً بحكم العقل أيضاً. ـ ومن جهة أخرى فإن حفظ النفوس من أهم المقاصد التي هدف إليها الإسلام في تشريعاته، لهذا اعتبر الله سبحانه أن قتل نفس واحدة تعادل قتل البشر جميعاً.. وفي المقابل فإن إحياء نفس واحدة يعادل إحياءهم جميعاً: (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).
ـ يلاحظ أنّ الآية لم تُضِف أيّ قيد على كلمة (نفس) في دلالة واضحة على أنّ عصمة الدماء تتجاوز كل الأطر
الدينية، أو غيرها.
ـ وتبقى إباحة القتل في بعض الموارد، استثناءً، تجوّزه بعض الضرورات الإنسانية، وتفرضه المصالح النوعية النظامية، من قبيل: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة:179، ومن قبيل: ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) البقرة:194، ومن قبيل: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ) المائدة:33.
ـ ولدفع الناس إلى مزيد من الاهتمام بالنفس الإنسانية، وردت في النصوص الإسلامية تحذيرات شديدة اللهجة بشأن الإقدام على سفك الدماء، والاستهانة بالأرواح والإعانة على الجريمة ولو بكلمة، ففي الحديث النبوي: (إنّ من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها، سفك الدّم الحرام بغير حلّه)، وعنه(ص): (لزوالُ الدنيا أهونُ على الله من دمٍ يُسفك بغير حق). وعن الإمام علي بن الحسين(ع): (قال رسول الله(ص): لا يغرّنكم رحب الذراعين بالدم، فإنّ له عند الله قاتلاً لا يموت! قالوا: يا رسول الله، وما قاتل لا يموت؟ قال: الموت). وعن الباقر(ع): (أول ما يحكم الله فيه يوم القيامة: الدماء، فيوقف ابني آدم فيقضي بينهما، ثم الذين يلونهما من أصحاب الدماء حتى لا يبقى منهم أحد..). وعنه(ع): (إن الرجل ليأتي يوم القيامة ومعه قدر محجمة من دم فيقول: والله ما قتلت ولا شركت في دم، فيقال له: بل ذكرتَ عبدي فلاناً، فترقّى ذلك حتى قُتل فأصابك دمُه).
ـ انطلاقاً من هذه النصوص وغيرها، أسَّس الفقهاء قاعدة خاصة في باب النفوس والدماء، وهي قاعدة الاحتياط، خلافاً للقاعدة العامة المحكَّمة في أكثر الأبواب الفقهية، وهي قاعدة البراءة والإباحة، ومفاد الاحتياط هنا: إنّ أدنى
شبهة كفيلة بحقن دم الإنسان، ولو كان متّهماً بالقتل.
ـ كل ذلك لابد وأنّ يؤسس لذهنية إسلامية تتورّع عن سفك الدماء، وتتجنّب الخوض في كل ما يؤدي، أو يعين على سفكها بغير حق.
ـ وهناك قاعدة شرعية أخرى متسالم عليها، وهي قاعدة (درء الحدود بالشبهات)، لقوله(ص): (ادرؤوا الحدود بالشبهات)، فإقامة الحدّ منوطة بعدم وجود شبهة، وبالتالي فلو أن التحقيقات القضائية لم توصِل القاضي إلى قناعة بأن القاتل قد قام بالقتل العمد، بل احتمل قوياً أن يكون ذلك شبهةً أو دفاعاً عن النفس، فلا يصار إلى القصاص منه.
ـ وفي مقابل هذا كله نجد سلوك الجماعات التكفيرية التي تعتبر أنّ عامة المسلمين ممن لا يوافقونها الرأي والفكر، بحكم الكفار الحربيين، وربما كانوا ـ عندهم ـ شراً منهم، على الرغم من قوله عزوجل: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عليه ولعَنَه وأعدَّ له عذاباً أليماً) النساء:93.
ـ وفي الحديث عن أبي حمزة عن أحدهما عليهما السلام قال: (أتي رسول الله فقيل له: يا رسول الله، قتيلٌ في جهينة. فقام رسول الله يمشي حتى انتهى إلى مسجدهم، وتسامع الناس فأتوه فقال: من قتل ذا؟ قالوا: يا رسول الله ما ندري. فقال: قتيل بين المسلمين لا يُدرى من قتله؟! والذي بعثني بالحق لو أن أهل السماء والأرض شركوا في دم امرئ مسلم ورضوا بذلك لأكبهم الله على مناخرهم في النار، أو قال: على وجوههم).
ـ بل قد نُهي عن مجرد ترويع المسلم وتخويفه، ففي النبوي: (من روّع مؤمناً لم يؤمِن اللهُ روعتَه يوم القيامة).
ـ أين هذا كله من ثقافة قطع الرؤوس، والتمثيل بالأجساد، وغير ذلك من مظاهر الوحشية التي يمارسها البعض باسم الله واسم رسوله؟
ـ الآن نحن بين هذه المبادئ الإسلامية والقيم الرفيعة وبين سلوكيات الجماعات التكفيرية والإرهابية التي ارتكبت وما زالت ترتكب جرائمَ يندى لها الجبين، وتستقي الشرعية الموهومة لتلك الجرائم من المنبع الآسن لسلوك المجرمين من آلِ أميةَ وحزبِهم، الذين لم يتورّعوا عن ارتكاب كلِّ قبيح وكلِّ جريمة في يومِ عاشوراء وقبله وبعده.. فالحزب واحد، والمدرسة واحدة، وما دفاعهم عن يزيدَ إلا لأنهم من سنخه، وما تخلِّيهم عن تعاليم القرآن إلا لأنهم إذا قرؤوه القرآن لم يجاوز تراقيهم، فقد مرَقوا من الإسلام مروق السهم من الرمية.
ـ وها هم يستعدون اليوم ليعودوا من جديد بثوب جديد ومن باب جديد ليمارسوا هوايتهم في ذبح الحق باسم الإسلام، وتحطيمِ أجسادِ ضحاياهم بسنابك التعصب، وتعليقِ رؤوسِهم على أسنة الحقد الدفين لكل ما هو إنساني.
ـ لقد تعلموا في مدرسة يزيد هدر كرامة الإنسان، وتعلمنا في مدرسة الحسين أن لا نطأطئ رؤوسنا لظالم.
ـ لقد تعلموا في مدرسة يزيد دروس الحقد، وتعلمنا في مدرسة الحسين دروس الرحمة.
ـ لقد تعلموا في مدرسة يزيد دروس استرخاص دماء الأبرياء، وتعلمنا في مدرسة الحسين كيف ندافع عن المستضعفين.
ـ لقد تعلموا في مدرسة يزيد كيف يستغلون الدين لخدمة مصالحهم الخاصة، وتعلمنا في مدرسة الحسين كيف يرتقي الدين بإنسانيتنا.
ـ روى الشيخ المفيد في الإرشاد أنه لما علم الحسين(ع) عصر التاسع من المحرم بتحرك قوات عمر بن سعد للشروع في القتال قال لأخيه العباس: (ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخرهم إلى الغدوة وتدفعهم عنّا العشية، لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني قد أحب الصلاة له وتلاوة كتابه والدعاء والاستغفار. فمضى العباس إلى القوم ورجع من عندهم ومعه رسول من قبل عمر بن سعد يقول: إنا قد أجلناكم إلى غد، فإن استسلمتم سرحناكم إلى أميرنا عبيد الله بن زياد، وإن أبيتم فلسنا تاركيكم، وانصرف. فجمع الحسين عليه السلام أصحابه عند قرب المساء. قال علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام: فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم، وأنا إذ ذاك مريض، فسمعت أبي يقول لأصحابه: أثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السراء والضراء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة وعلمتنا القرآن وفقهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، فاجعلنا من الشاكرين. أما بعد: فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني خيراً، ألا وإني لأظن أنه آخرُ يوم لنا من هؤلاء، ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً.
فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبد الله بن جعفر: لم نفعل ذلك؟! لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بهذا القول العباس بن علي رضوان الله عليه واتبعته الجماعة عليه فتكلموا بمثله ونحوه. فقال الحسين عليه السلام: يا بني عقيل، حسبكم من القتل بمسلم، فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم. قالوا: سبحان الله، فما يقول الناس؟! يقولون إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا - خير الأعمام - ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا، لا والله ما نفعل ذلك، ولكن تفديك أنفسُنا وأموالُنا وأهلونا، ونقاتل معك حتى نرِدَ موردك، فقبح الله العيش بعدك. وقام إليه مسلم بن عوسجة فقال: أنخلّي عنك ولما نعذر إلى الله سبحانه في أداء حقك؟! أما والله حتى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمُه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، والله لا نخليك حتى يعلم الله أن قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وآله فيك، والله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق ثم أحيا ثم أذرى، يفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً. وقام زهير بن القين البجلي - رحمة الله عليه - فقال: والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل هكذا ألف مرة، وأن الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك. وتكلم جماعةُ أصحابِه بكلام يشبه بعضُه بعضاً في وجه واحد، فجزاهم الحسين عليه السلام خيرا وانصرف إلى مضربه. قال علي بن الحسين عليهما السلام: إني لجالس في تلك العشية التي قتل أبي في صبيحتها، وعندي عمتي زينب تمرضني، إذ اعتزل أبي في خباء له وعنده جوين مولى أبي ذر الغفاري وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول:
يا دهر أف لك من خليل كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحب أو طالب قتيل والدهر لا يقنع بالبديل
وإنما الأمر إلى الجليل وكل حي سالك سبيلي
فأعادها مرتين أو ثلاثاً حتى فهمتُها وعرفت ما أراد، فخنقتني العبرة فرددتها ولزمت السكوت، وعلمت أن البلاء قد نزل، وأما عمتي فإنها سمعت ما سمعت وهي امرأة ومن شأن النساء الرقة والجزع، فلم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها وإنها لحاسرة، حتى انتهت إليه فقالت: وا ثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن، يا خليفة الماضي وثمال الباقي. فنظر إليها الحسين عليه السلام فقال لها: يا أخيّة لا يُذهبن حلمَك الشيطان، وترقرقت عيناه بالدموع وقال: لو تُرك القطا لنام).
آه يا ليلـةَ الأسـى والدمــوع أطفئي فـي دم الطفوف شموعي
ودعيني أعيشُ في ظُلمةِ الحزن فعُمـري شمسٌ بغيـرِ طلـوع
وانثري في عيوني الجمرَ وقّاداً وخلّـي اللهيـبَ بيـن ضلوعي
وامسحي بالسواد لـونَ وجودي فلقـد كفّـنَ الـرمـادُ ربيعـي