ليالي عاشوراء- 8 -1433 - الشيخ علي حسن ـ حسينية دار الزهراء عليها السلام


ـ (وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) النجم:28.
ـ الظن يشمل كل ما هو غير علمي، مما لا يمكن الاعتماد عليه لأنه لا يكشف عن الحقيقة من مواقع الفطرة والوجدان، أو من مواقع الحجة المنتهية إلى الوجدان. وهذا هو الذي يريد الإسلام للإنسان أن يسير عليه في تحصيل القناعة، أو تحقيق الانتماء، ولا بدّ له من مواجهة الفكرة المتبنَّاة من الإجابة على كل علامة استفهامٍ مطروحةٍ أمامه، بما يطمئن إليه العقل، وتستقر به النفس، ويعذر فيه العقلاء، فإذا لم يحصل ذلك وبقيت الاحتمالات المضادة مفتوحةً عنده، كان الموقف الطبيعي لديه أن يأخذ جانب الحذر ليلاحق الآفاق المتنوعة التي تقف به عند خطّ اليقين. ومن خلال ذلك، نفهم جيّداً كيف يريد الإسلام للإنسان أن يحترم الحقيقة في الحياة، باحترام مسؤولية الفكر لديه، والتأكيد على أدواته وأساليبه في الوصول إلى النتائج.
ـ تحدثت في الليلة الماضية عن بعض الملاحظات المسجلة على شعر الطف، والتي تترتب عن حسن نية لا بقصد الإساءة للنهضة الحسينية ولأبطالها، وذكرت حينها ثلاث ملاحظات:
1. إقحام بعض المفاهيم القلقة المتنافية مع المفاهيم الإسلامية الأصيلة
2. تحريف منطلقات النهضة الحسينية وغاياتها
3. ركاكة الأسلوب والنظم
4. تشويه حقائق التاريخ، وقد يكون ذلك إمعاناً في الصورة العاطفية التي تريد استدرار الدمعة ولو على حساب الحقيقة، أو بالاعتماد على نصوص تاريخية واضحة الوهن في مضمونها، أو متنافية مع نصوص أخرى أكثر دقة ووثاقة.
ومثال ذلك ما جاء في ميمية السيد جعفر الحلي حيث يتمثل فيها الحسين عليه السلام شخصاً ضعيفاً خائفاً باحثاً عن المأوى ولا مأوى له، تماماً كما هو الإنسان الهائم على وجهه الهارب من أعدائه: (مثلُ ابنِ فاطمةَ يبيت مشرداً، ويزيدُ في ذاته متنعِّمُ، ويضيقُ الدنيا على ابن محمدٍ، حتى تقاذفَه الفضاءُ الأعظمُ، خرج الحسين من المدينة خائفاً، كخروج موسى خائفاً يتكتّم، وقد انجلى عن مكّةَ وهو ابنُها، وبه تشرّفَت الحطيم وزمزمُ، لم يدرِ أين يريحُ بُدْنَ رِكابِه، فكأنّما المأوى عليه محرَّمُ).
ـ وعلى الرغم من هذه الصورة المؤثرة في مضمونها إلا أنها لا تقدم الحسين في صورة الثّائر الّذي يتحرّك ليواجه السّلطة الجائرة المنحرفة بقوة وإرادة، من أجل تغيير الواقع الفاسد في الحكم وفي السّلوك والحركة، على النّحو الّذي جاء في خطبته الّتي استقبل بها حركته، فيما جعله عنوان الشّرعيّة للحركة من خلال كلام رسول الله(ص)، ففي رواية أبي مخنف عن عقبة بن أبي العَيْـزار: (إن الحسين خطب أصحابه وأصحاب الحر بالبيضة فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعلٍ ولا قول، كان حقاً على الله أن يُدخله مُدخلَه). فهل هذه صورة الإنسان الخائف الباحث عن الملجأ هرباً من الظالمين.. أم صورة المؤمن القوي الذي يحمل الإرادة الصُّلبة لاقتحام مواقع الظلم والباطل؟
ـ وهكذا ترسِّخ ذات الفكرة كلماتٌ أخرى للإمام الحسين كتلك التي أطلقها في يوم عاشوراء كما رواها السيد ابن طاووس في (اللهوف) قال: (فركب الحسين عليه السلام ناقته وقيل فرسه فاستنصتهم فأنصتوا، فحمد الله وأثنى عليه وذكره بما هو أهله وصلى على محمد (ص) وعلى الملائكة والأنبياء والرسل، وأبلغ في المقال ثم قال: تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً، استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدوكم، فأصبحتم ألباً لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدلٍ أفشوه فيكم، ولا أملٍ أصبح لكم فيهم، فهلاّ لكم الويلات تركتمونا والسيف مشيّم والجأش طامِن والرأي لما يستحصف. ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدبا، وتداعيتم إليها كتهافت الفراش، فسحقاً يا عبيد الأمة وشذاذ الأحزاب ونبذة الكتاب ومحرفي الكلم وعصبة الآثام ونفثة الشيطان ومطفئي السنن، أهؤلاء تعضدون، وعنّا تتخاذلون؟ أجل والله، الغدر فيكم قديم، وشجَت إليه أصولكُم وتأزّرت عليه فروعُكم، فكنتم أخبث ثم شجاً للناظر، وآكلة للغاصب. ألا وإن الدعيَّ ابنَ الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله ذلك لنا، ورسولُه والمؤمنون وحجورٌ طابت وطهرت، وأنوفٌ حمية، ونفوسٌ أبيّة مِن أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. ألا وإني زاحف بهذه الأسرة مع قلة العدد وخذلة الناصر).
ـ إنّنا لا ننكر أنّ الإنسان، حتّى لو كان نبيّاًً، قد يخضع للضّعف البشريّ من خلال بشريّته، كما في قصة النبي موسى عليه السلام حيث جاء وصفه: (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ) القصص:21، ولكنّ الحسين عليه السلام قد اتّخذ قراره في المواجهة الصّعبة، بعد دراسةٍ عميقةٍ لكلّ النّتائج المترتّبة عليه، وعرف طبيعة الوحشيّة الهمجيّة المتمثّلة في عناصر الشّخصيّة الطّاغية لهؤلاء.. والصّورة الحقيقيّة للإمام الحسين عليه السلام، هي تلك الصّورة التي عبّر عنها أحد أعدائه من جيش يزيد حيث قال: (فوالله ما رأيت مكثوراً قطّ قد قتل ولده وأهل بيته، أربط جأشاً، ولا أشدّ بأساً من الحسين،
فلقد كانت الرجّالة تشدّ عليه، فيشدّ عليها، فتنكشف من بين يديه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذّئب).
ـ وللأسف فإن ذات الصورة التي قدمها بعض الشعراء عن الحسين عليه السلام كإنسان ضعيف هارب من المواجهة، تم تقديمها عن السيّدة زينب عليها السلام في شعر الطف، ولا سيّما الشّعر الشّعبيّ، فلا نجد فيها ـ إلا نادراً ـ صورة البطلة القويّة المتحدّية التي وقفت في قوّةٍ وصلابةٍ وثباتٍ في مجلس ابن زياد لتتحدّى سلطانه، وفي مجتمع أهل الكوفة لتواجه انحرافهم وخذلانهم، وفي مجلس يزيد لتهاجم مواقعه، بل نجد صورة الإنسانة التي تتحدّث بالأسلوب الضّعيف الواهن الثّاكل الذي يبحث عن العشيرة فلا يجدها، وعن النّصير فلا يلتقي به، ويواجه القضيّة بلسان الدّعوة إلى الثّأر على الطّريقة العشائريّة.. بعيداً عن القضيّة الكبرى في نهضة الحسين وفي مسؤوليتها الرسالية بعد الطف.
ـ وإذا كنا نوافق على أنّ الحديث عن الجانب المأساوي في الطف وما بعده بهذه الصورة العميقة يمثّل لوناً من ألوان التّعبئة النّفسيّة ضدّ الّذين صنعوا المأساة، أو الّذين يصنعون ما يماثلها، إلا أنه لابد أن لا نستغرق في تصوير المأساة بالطريقة التي نُبعد من خلالها المأساة عن جوّ القضيّة في مواقع القوّة والعنفوان، ولا عن مبادئ الإسلام وقيمه التي من أجلها كنت نهضة الحسين عليه السلام.
ـ ويأتي عرسُ القاسم ليمثل واحدة من المفردات التي أُقحمت في تفاصيل النهضة الحسينية، وفي شعر الطف كقول الشاعر: (زفَّت الجاسم ما حضرها داحي الباب، يا ليت شخصه عن محاني الطفِّ ما غاب، زفّت الجاسم وافقت ساعة مشومه، واذباح عرسه مِن هلَه ويّا اعمومه، واخضاب عرسه يا علي جاري ادمومه، يَمتى سمعنا يا علي جاري الدما اخضاب). لاشك أنها صورة مأساوية مؤلمة ولكن المشكلة في إثبات أصل القضية.
ـ وقد نهض بعض العلماء ـ لاسيما من المتحدثين باللغة الأردية ـ للانتصار لرأيهم إيجاباً أو رفضاً، فقد ألف السيد ظهور الحسين البارهوي كتاباً بعنوان (التقرير الحاسم في عرس القاسم) وكتاب (قول صواب في نفي عرس القاسم)، فانبرى له مجموعة في الرد عليه كالسيد علي الكشميري اللكنهوي في كتابه (الحجج القاطعة في إثبات وقوع عرس القاسم بن الحسن)، وكتاب (دق الخيشوم في جواز قراءة عرش القاسم المظلوم) لبعض علماء الهند كما ذكر الآغا بزرك في الذريعة، وكتاب (دفع المغالطة في مسألة عرس القاسم بن الحسن بكربلاء) للحكيم محمد اللكنهوي، و(القاسمية) في تحقيق عرس القاسم بن الحسن للسيد علي بن محمد اللكنهوي، وغير ذلك.
ـ ظهر الخبر أولاً في الكتاب الفارسي (روضة الشهداء) للشيخ حسين البيهقي الكاشفي الصوفي (ت910هـ) على ما نص عليه الميرزا حسين النوري، وهو على حد تعبير الشهيد المطهري: (كتاب مخصص للأكاذيب والتحريف والتزوير حول واقعة كربلاء التاريخية)، ونقل عنه الطريحي (ت 1085هـ) في المنتخب، ثم ذكره الدربندي (1285هـ) في كتابه (أكسير العبادات في أسرار الشهادات) الذي قال: (تلك الحكاية لم أخلف فيها بأثر معتبر) ولكنه حاول تقويته بأدلة عقلية. وقد علّق النوري في (اللؤلؤ والمرجان) على كتاب (أكسير العبادات) بقوله: (ليس له أي وقع ولا اعتبار لدى علماء هذا الفن وجهابذة الحديث والسّير، بل إنّ الأخذ منه والاعتماد عليه يدل على ضعف الناقل وقلة بصيرته في الأمور.. بل إن نفس المؤلف يعترف في كتابه بضعف رواياته ويبرز بعض العلامات الدالة على كذبها ووضعها).
ـ وقد ذكر الشيخ عباس القمي في كتابه: (منتهى الآمال) ونقلاً عن مقدمة (الأربعين الحسينية) ما نصه: (وتتجه أنظار الجهال وطلبة الدنيا إلى كل ذي منفعة دنيوية فحتى ذكر مصائب أهل البيت عليهم السلام أصبح اليوم وسيلة لتحصيل المعاش والتكسب، ولم تلحظ جهة العبودية فيه غالباً، وبلغ الأمر إلى حدّ بحيث تذكر الأكاذيب الصريحة في مجاميع العلماء دون أن يُنهى عن المنكر ويتجاوز البعض من الخطباء حدّه ويختلق الحكايات المبكية ويزعم دخوله في مَن أبكى فله الجنة. ويتداول هذا الكلام الكاذب وهذه الحكايات المختلقة لفترة زمنية حتى يشيع ويُذكر في التآليف الجديدة، وكلما مَنع من ذكر هذه الأكاذيب محدِّث مطّلع أمين نسبوه إلى كتاب مطبوع أو كلام مسموع أو تمسكاً بقاعدة التسامح في أدلة السنن، وذلك يؤدي إلى ذم و لوم الأقوام الأخرى من سائر المذاهب، كالوقائع المعروفة المتداولة في الكتب الجديدة التي لا أثر لها لدى أهل العلم والحديث، كعرس القاسم في كربلاء الذي ذكر في كتاب روضة الشهداء للفاضل الكاشفي، ونقل عنه الشيخ الطريحي الذي هو من المعتمدين والعلماء، لكن توجد مسامحات كثيرة في كتابه المنتخب، كما لا يخفى على أهل البصيرة والإطلاع).
ـ وقد تساءل الباحثون عن فاطمة بنت الإمام الحسين التي ذكر الدربندي أنها زفت للقاسم، ففاطمة الكبرى كانت زوجة الحسن بن الحسن، وفاطمة الصغرى خلفها الحسين(ع) في المدينة لمرضها، وسكينة كانت زوجة لعبد الله بن الحسن.
ـ إن استعراض أحداث النهضة الحسينية، ومنه موقف القاسم، لا يحتاج إلى إقحام نصوص وأخبار لا مستند لها، فلقد كان القاسم بطلاً من أبطال كربلاء، وهو الذي لم يبلغ الحلم، وقد جاء في الإرشاد للشيخ المفيد عن حميد بن مسلم: (خرج علينا غلام كأن وجهَه شُقةُ قمر، في يده سيف وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع إحداهما، فقال لي عمر بن سعيد بن نفيل الأزدي: والله لأشدن عليه، فقلت: سبحان الله، وما تريد بذلك؟! دعه يكفيكه هؤلاء القوم الذين ما يُبقون على أحد منهم، فقال: والله لأشدن عليه، فشد عليه فما ولّى حتى ضرب رأسه بالسيف ففلقه، ووقع الغلام لوجهه فقال: يا عماه! فجلى الحسين عليه السلام كما يجلي الصقر، ثم شد شدة ليث أغضب، فضرب عمر بن سعيد بن نفيل بالسيف فاتقاها بالساعد فأطنّها من لدن المرفق، فصاح صيحة سمعها أهل العسكر، ثم تنحى عنه الحسين عليه السلام. وحملت خيل الكوفة لتستنقذه فتوطأته بأرجلها حتى مات. وانجلت الغبرة فرأيت الحسين عليه السلام قائماً على رأس الغلام وهو يفحص برجله والحسين يقول: بُعداً لقوم قتلوك، ومَن خصمُهم يومَ القيامة فيك جدُّك. ثم قال: عزَّ - والله - على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا ينفعك، صوتٌ - والله – كثُرَ واتروه وقلَّ ناصروه . ثم حمله على صدره، فكأني أنظر إلى رجلي الغلام تخطان الأرض، فجاء به حتى ألقاه مع ابنه علي بن الحسين والقتلى من أهل بيته، فسألت عنه فقيل لي: هو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام).
فإنا لله وإنا إليه راجعون، وسيعلم الين ظلموا أي منقلب ينقلبون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. السلم على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين، السلام على القاسم بن الحسن جميعاً ورحمة الله وبركاته.