ليالي عاشوراء- 7 -1433 - الشيخ علي حسن ـ حسينية دار الزهراء عليها السلام


ـ (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) الشعراء:224-227.
ـ جاءت هذه الآيات في معرض الرد على المشركين الذين اتهموا النبي بأنه شاعر، وأن القرآن من شعره، فقدمت صورة مقارنة بين ما هو معهود بالنسبة إلى العرب من حال الشعراء في ذلك الزمان وبين حال النبي، فإن المعهود من أولئك الشعراء السفر من مكان لآخر استرزاقاً من خلال مدح هذا وذم ذاك، وليثيروا الأوهام والخيالات على حساب الحقائق، وعندما تدقق في سلوكهم ستجدهم في تناقض مع ما يمتدحونه من أخلاقيات وقيم كالشجاعة والوفاء والصدق.. فهل رأيتم ملامح الشاعر في روحية النبي ووجدانه وصدقه وصفائه وإشراقة فكره وتعلق قلبه بالخير والرحمة والحق؟ هل تمثلتم في شخصيته الملائكية شخصية الشاعر الذي يلوّن الكلمة بألوان الباطل؟ فكيف لكم أن تعتبروه من الشعراء؟ وكيف لكم أن تحكموا على القرآن المنزل عليه بأنه من الشعر؟
ـ ثم تقدِّم الآيات الصورة المشرقة للشعر حين يتحول إلى كلمة صادقة وموقف مبدئي، ليكون الشاعر ـ بذلك ـ هو الإنسان المؤمن المخلص لقضيته والمدافع عن قيمه. وهذا بمثابة نقلة نوعية للشعر العربي إذ تَحوّل من وسيلة ارتزاقية أو شخصية إلى وسيلة مبدئية أخروية. وقد روي أن رسول الله(ص) سُئل عن الشعر فقال: (إن المؤمن مجاهدٌ بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنما ينضحونهم بالنبل).
ـ بل من النصوص الإسلامية ما يدل على أن الشاعر لربما يتلقى تسديداً غيبياً في شعره إن كان منطلقه سديداً، وتجسَّد ذلك في ما روي عن النبي لحسان بن ثابت: (روح القدس معك ما دمت تنافح عن نبيه). وقول الباقر للكميت: (لا تزال مؤيداً بروح القدس ما دمت تقول فينا) .
ـ ومن هناك كان شعر الطف ذا قيمة عليا حين ينطلق من هذا المنطلق المبدئي، لاسيما وهو يمثل نوعاً من شعر المعارضة للباطل وللحكومات الظالمة، وقائله قد يتعرض للاضطهاد بل القتل أيضاً، خاصة إذا انطلق منه إلى نقد الواقع السياسي الحاكم في زمانه.
ـ وكأي وسيلة ثقافية ومنبر إعلامي، فإن شعر الطف معرَّض أن يخطئ في تقديم الصورة والمفاهيم.. عن حسن نية، لشدة العاطفة، أو للجهل بالحقائق، أو للرغبة في تقديم الجديد ولغير ذلك، الأمر الذي يستدعي الوقوف للتقييم والتقويم، كي لا يحيد هذا الشعر عن منطلقاته وأهدافه السامية.
ـ ويمكن تسجيل الملاحظات التالية بخصوص بعض سلبيات ما هو دارج في شعر الطف:
1. إقحام بعض المفاهيم القلقة المتنافية مع المفاهيم الإسلامية الأصيلة، ومثال ذلك ما جاء في عينية السيد حيدر الحلي، وهي قصيدة رائعة في التصوير يخاطب بها الإمام الحجة عجل الله فرجه:
(الله يا حامي الشريعة .. بك تستغيث وقلبُها لك عن جَوىً يشكو صدوعه.. أين الذريعة؟ لا قرارَ على العِدى أين الذريعة؟ مات التصبرُ بانتظارك أيها المحيي الشريعة.. فانهض فما أبقى التحملُ غير أحشاءٍ جَزوعة.. قد مزقَت ثوبَ الأسى وشَكَت لواصلِها القطيعة.. فالسيف إن به شفاءُ قلوبِ شيعتِك الوجيعة.. قالت حبالُ عواتقٍ فمتى تعود به قطيعة؟ كم ذا القعود ودينُكم هُدِّمت قواعدُه الرفيعة.. تنعى الفروعُ أصولَه، وأصولُه تنعى فروعَه.. فاشحذ شبا غضبٍ له أرواحٌ مذعنةٌ مطيعة.. واطلب به بدمِ القتيلِ بكربلا في خيرِ شيعة.. ماذا يَهِيجُك إن صبرتَ لوقعة الطف الفظيعة؟ أترى تجئُ فجيعةٌ بأمرَّ من تلك الفجيعة؟ حيثُ الحسين على الثرى خيلُ العِدى طَحنَت ضلوعَه.. قتلَتْه آلُ أميةَ ضامي إلى جنب الشريعة.. ورضيعُه بدم الوريد مخضبٌ فاطلب رضيعَه.. يا غيرةَ الله اهتفي بحميَّةِ الدين المنيعة.. ودعي جنودَ الله تملأ هذه الأرضَ الوسيعة.. واستأصلي حتى الرضيعَ لآلِ حرب والرضيعة... إلخ).
ـ من الواضح أن البيت الأخير يحتوي مضموناً لا يتناسب والمبادئ الإسلامية، وقد قال تعالى: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) الإسراء:15.
2. ركاكة الأسلوب والنظم، ولعل الانفتاح الإعلامي والسوق الرائجة للتسجيلات دفعت البعض للنزول إلى ميدان الشعر في نظم قصائد اللطميات وغيرها دون امتلاك خبرة كافية أو معرفة ضرورية لأصول نظم الشعر وقواعده، يشجعهم في ذلك حبهم للحسين وتحمسهم لنهضته ورغبتهم فيما رغّب فيه أهل البيت عليهم السلام من قول الشعر في ذلك كالذي رواه الشيخ الطوسي في اختيار معرفة الرجال: (أن جعفر بن عفان دخل على الإمام الصادق عليه السلام فقال له: إنك تقول الشعر في الحسين عليه السلام وتجيده. قال: نعم.. فاستنشدَه، فلما قرأ عليه بكى حتى جرت دموعُه على خديه ولحيته وقال له: لقد شهدت ملائكة الله المقرّبون قولَك في الحسين عليه السلام، وإنهم بكوا كما بكينا، ولقد أوجب الله لك الجنة. ثم قال عليه السلام: مَن قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى غفر الله له ووجبت له الجنة).
ـ ولو قارنا بين ما ينظم من الشعر حالياً وبين ما نظم في القرون الماضية لأدركنا البون الشاسع بينها من حيث اللغة والبديع وقوة التصوير والقواعد الشعرية. ولكن من الواضح أنه يصعب ضبط هذا الأمر لاسيما في المجتمعات التي لا تملك ثقافة شعرية وأدبية كافية، ولذا يبقى أن نوجّه وننبّه كي يبقى هذا الرافد المهم في خطه السليم.
3. تحريف منطلقات النهضة الحسينية، ومثال ذلك ما جاء على لسان أبي العلاء المعرّي وهو يصوّر القضية وكأنها نزاع عائلي، وثارات أسرية انطلق فيها الحسين ويزيد استكمالاً لكل ماضي الصراع بين بني أمية وبني هاشم، قال: (عبدُ شمسٍ قد أضرمت لبني، هاشمَ حرباً يشيبُ فيها الوليدُ.. فابنُ حربٍ للمصطفى وابنُ، هندٍ لعليّ وللحسين يزيدُ).
ـ ولربما كان من التأثيرات السلبية لتصوير الطف بأنه انعكاس لصراع أسري أن تم اعتبار الدّين ـ من قبل البعض ـ كخصوصيّة من خصوصيّات العائلة، لا كحالةٍ رساليّةٍ قائمة على مصداقية الإيمان والعمل، وهذا ما دفع البعض لتأييد الخارجين على البيت العباسي والتعصب لهم لمجرد انتمائهم للبيت العلوي، حتى لو انحرفوا، ويمكن أن نرى هذا ماثلاًَ في الحوار التالي بين الإمام الرضا وأخيه زيد المعروف بزيد النار، الذي استولى مع أنصاره على البصرة فأضرم النار في بيوت بني أمية وبني زياد وبني العباس ثم اعتُقل وسُلِّم إلى المأمون فعفى عنه وأبقاه في مرو إلى جانب أخيه الرضا والنص هكذا: (عن حسن البغدادى قال: كنت بخرسان مع الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام فى مجلسه وزيد بن موسى حاضر قد أقبل على جماعته يفتخر عليهم ويقول: نحن ونحن. وأبو الحسن عليه السلام مقبل على قوم يحدثهم فسمع مقالة زيد فالتفت اليه فقال: يا زيد، أغرَّك قولُ ناقلي الكوفه أن فاطمة عليها السلام أحصنت فرجها فحرّم الله ذريتها على النار؟ فوالله ما ذاك إلا للحسن والحسين عليهما السلام وولْد بطنِها خاصة.. فأما أن يكون موسى بن جعفر عليهما السلام يطيع الله ويصوم نهارَه ويقوم ليلَه، وتعصيه أنت، ثم تجيئان يوم القيامة سواء، لأنت إذن أعز على الله عز وجل منه. إن علي بن الحسين عليه السلام كان يقول: لِمحسِنِنا كفلان ـ ضعفان ـ من الأجر، ولِمسيئِنا ضعفان من العذاب. ثم التفت إلي فقال لي: يا حسن، تقرؤون هذه الآية "قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ"؟ فقلت: من الناس مَن يقرأ "إنه عمِلَ غيرَ صالح"، ومنهم مَن يقرأ "إنه عملٌ غيرُ صالح"، فمن قال إنه عملٌ غيرُ صالح فقد نفاه عن أبيه. فقال عليه السلام: كلا، لقد كان ابنَه، ولكنه لما عصى الله عز وجل نفاه عن أبيه. كذا مَن كان منا لم يطع الله عز وجل فليس منا، وأنت إذا أطعت الله عز وجل فأنت منا أهلَ البيت).
ـ وفي التاريخ الحديث نجد نفس هذا التصور القاصر يعود ليشكل عاملاً لتكرار ذات الخطأ، إذ حصل الملك فيصل الأوّل على الحماس الشّيعيّ الّذي تصدّره علماء الدّين في جبل عامل عندما أعلِن ملكاً على سورية، كما حصل على تأييدٍ مماثلٍ أو أكثر منه، لدى بعض علماء وشيعة العراق، وذلك لمجرد انتمائه إلى البيت العلوي دون تدقيق في خلفيّاته السياسيّة المرتبطة بالاستعمار البريطانيّ الّذي أراده أن يكون حارساًً لمصالحه، وواجهةً لحكمه، وجسراً لمخطّطاته.
ـ وبكلمة مختصرة: إنّ علاقتنا بأهل البيت عليهم السلام لا تنطلق من هاشميّتهم، بل تنطلق من رساليتهم.
ـ ونحن عندما نزور أبا الفضل العباس كما جاء في الرواية عن الإمام الصادق(ع) نقول: (السلام عليك أيها العبد الصالح المطيع لله ولرسوله ولأمير المؤمنين وللحسن والحسين، فنعم الأخ المواسي) نلاحظ ترسيخ هذه الحالة من الولاء المبني على العبودية لله والطاعة له ولرسوله ولأوليائه، فالمسألة ليست مسألة تعصب لأخ أو لابناء عمومة أو لقبيلة أو ما شابه، وموقف قمر بني هاشم لم ينبنِ على هذا الأساس.
ـ لقد أعطى العباس كلَّ حياتِه للإسلام، وضحى بنفسه في سبيل إمام الإسلام، ويروي ابن شهراشوب في (مناقب آل أبي طالب) عن لسانه عندما قُطعت يمينه: (والله إن قطعتم يميني، إني أحامي أبداً عن ديني، وعن إمام صادق اليقين،
نجل النبي الطاهر الأمين).
ـ وقد روى الشيخ الصدوق في خصاله عن الإمام زين العابدين(ع) قوله: (رحم الله العباس ـ يعني ابن علي ـ فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه حتى قطعت يداه، فأبدله الله بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وإن للعباس عند الله تبارك وتعالى لمنزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة. والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة، وقد أخرجته بتمامه مع ما رويته في فضائل العباس بن علي عليهما السلام في كتاب مقتل الحسين بن علي عليهما السلام). وللأسف يبدو أن تتمة الحديث مفقودة.
ـ وفي حديث آخر رواه ابن عنبة في كتابه (عمدة الطالب في انساب آل أبي طالب) عن الإمام الصادق(ع) وهو يتحدث عنه: (كان عمنا العباس بن علي نافذَ البصيرة صلبَ الإيمان، جاهد مع أبي عبدالله عليه السلام، وأبلى بلاء حسناً، ومضى شهيداً).
ـ نعم هكذا كان العباس البطل الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، وجاء في الإرشاد للشيخ المفيد في أحداث ليلة عاشوراء: (وجاء شمر حتى وقف على أصحاب الحسين عليه السلام فقال: أين بنو أختنا؟) وفي نص اللهوف للسيد ابن طاوس أنهم امتنعوا عن الرد عليه فقال لهم الحسين عليه السلام: (أجيبوه، وإن كان فاسقاً، فإنه بعض أخوالكم)، (فخرج إليه العباس وجعفر وعثمان بنو علي بن أبي طالب عليه وعليهم السلام فقالوا: ما تريد؟ فقال: أنتم يا بني أختي آمنون، فقالت له الفتية: لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟). وعندما أحلّ الحسين البيعة لأهل بيته وأصحابه، وقف العباس وقال: (أنبقى بعدك يابن رسول الله، لا والله، حتى نجاهد بين يديك).
ـ لقد كان العباس(ع) يمثِّل بطولة الإسلام بوعيه وإخلاصه، وكان يمثل في عاشوراء القائد الذي كان يقود جيش الإمام الحسين(ع). ولذلك، فإن علينا أن لا نتحدث عن بطولة العباس القتالية فقط، ولكن أن نتحدّث عن بطولته الروحية والإيمانية، إضافة إلى بطولته الجهادية، ليكون العباس قدوة لشبابنا في مواجهة الباطل والاستكبار والظلم.
ـ لقد جاهد العباس مع أبي عبد الله(ع)، وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين، السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين، السلام على أبي الفضل العباس ورحمة الله وبركاته.