خطباء اليوم - محمد القزويني

هذا العنوان كان لأول مقال لي في السبعينيات من القرن الماضي، وكنت وقتها ألوم كلَّ من يعتلي منصة الخطابة في مؤسساتنا الدينية على أنهم كانوا يسيحون في عالم التاريخ و يهيمون في دنيا البطولات الخالدة التي تجسدت في بداية التاريخ الإسلامي دون أن يحاولوا بث روح الإنجاز التي تجسدت لدى الرواد الأوائل من المسلمين في الناشئة الحاضرة. وما أشبه اليوم بالبارحة، فلا يزال خطباؤنا يتغنون بتلك الأمجاد ويتحسرون على ذلك التاريخ المشرق الذي ضاع، مهملين توجيه الشباب لكيفية إحياء ذلك المجد الذي اندثر. ولو عدنا لملحمة كربلاء الخالدة فهذه الواقعة مذ بدايتها كفيلة بأن تخلق في النفوس انطلاقةً نحو تغيير الواقع البائس الذي تعيشه الأمة في وجدانها وفي تعاطيها مع ما يدور حولها، لكن ما يحدث هو مجرد التحليق مع وقائع الملحمة وإبراز الجانب المأساوي فيها بل والمبالغة في ذلك بشكل لا يستقيم مع العقل، في تطبيق سقيم ومشوَّه لدعوة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله لإحياء ذكرى الإمام الحسين عليه السلام والحزن عليه، وكأن الحزن عنصر دخيل على هذه المأساة وليس من واقع أحداثها.
ولست هنا في مجال التدليل على دعوة الرسول الأكرم للاحتفاء بهذه المناسبة وإبراز ظلامة أهل بيته الكرام وصحبهم الأبرار الذين نُحروا على أرض كربلاء يوم العاشر من محرم، فذلك مما أثبته كبار المؤلفين ورجالات الإسلام في الغابر والحاضر، وإن أنكر ذلك البعض، لكن ما أريد أن أدعو إليه هو تخليص هذه الذكرى الغالية من الانحراف في إحيائها، سواء تمثل ذلك الانحراف في المبالغة في أحداث الواقعة أو في إنكار ما حدث.
وحديثي هنا موجه للصنف الأول من الخطباء، فالحسين عليه السلام لا يحتاج للبطولات الخارقة كي يثبت أنه ابن أشجع شجعان العرب.. صحيح أن كثيراً من وقائع معركة كربلاء غير متوفرة في النص التاريخي.. لكن الموجود منها والذي أجمع عليه كافة المؤرخين منذ وقوع الحادثة كاف في إبراز ما وقع في ذلك اليوم الكئيب في تاريخ الإسلام والذي شكل بحق ردة ما بعدها ردة.
فمن يصدّق أن بنات رسول الله الذي أنقذ البشرية من الضلال يتعرضن للسبي وينقلن بشكل مخز من بلد لآخر؟ ومن يصدّق أن أهل بيت النبوة تُحرَق خيامهم وتُسبى أطفالهم بعد ذبح رجالهم وأبطالهم من غير منكر فعلوه سوى الدعوة إلى الله؟ ولا أعرف أية مشاعر تحرك نفس ذلك الذي يدعو لجعل يوم عاشوراء يوم فرح وسرور وهو يقول في صلاته صباح مساء (اللهم صل على محمد وآل محمد)! وهل الحسين وآل الحسين إلا صفوة أولئك الآل؟ لكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
لابد من إبراز عاشوراء بكل جلالة وتقدير، فمكانتها من مكانة قائدها وزعيمها الذي تربى على يد الوحي وغذته يد النبوة الكريمة بكل فضيلة، فكان خير من تمثل بالخلق النبوي وجسّد أسلوب جده سيد الرسل، وأوصى نساءه وعياله بالالتزام بذلك وعدم إعطاء العدو فرصة لينتقص من قدرهم أو يخدش كرامتهم..وعلى نفس المنوال فليكن إحياء هذه الذكرى وتقديمها للأمة بشكل يحافظ على جلال الواقعة ورساليتها وعدم خدش تلك العظمة بخيالات سقيمة عن أحداث مختلقة من أجل الإمعان في إبراز مأساة ما حدث.