التنمية والعامل الثقافي - الشيخ علي حسن

التنمية في الأساس فعل ثقافي قبل أن تكون حالة اقتصادية أو مادية، وقبل أن تنطلق كحركة سياسية، وكلما كانت الثقافة حيوية أكثر وغير محاصرة بقيود وأغلال التخلف، كلما قادت إلى تنمية متوازنة وسليمة. ولهذا عندما نفتش عن أسباب تراجع التنمية علينا أن ندقّق كثيراً في الأساس الثقافي الذي ينبني عليه الفرد وبالتالي المجتمع ككل، ولربما سنكتشف حينها أننا نفتقد الثقافة الصحيحة، أو نجد بها خللاً يعيق حركتها الإيجابية.
المحاصصة الوزارية:
وكمثال على ذلك أنه عندما يُضطر في بلد ما إلى تشكيل وزاري يعتمد على المحاصصة الطائفية والقبلية والعرقية دون الأخذ بعين الاعتبار الكفاءة والمؤهلات العلمية والعملية والشخصية، ثم تبدأ سياسة الإحلال الوظيفي من قبل الوزير وحاشيته في مفاصل الوزارة وحتى صغار موظفيها بمن هم من طائفته أو قبيلته أو المنحدرين من العرقية ذاتها، لا بلحاظ امتياز سوى المشترك في الانتماء إلى ذلك العنوان، فهذا دون شك يمثل عائقاً من عوائق التنمية وحركتها في المجتمع، ولها ترتبات تراكمية تدفع لتكرر التجربة من قبل الآخرين انتقاماً أو معاملةً بالمثل.
هذا الخلل الكبير ذو أساس ثقافي، وبالتالي يحتاج إلى معالجة ثقافية نابعة من التربية الإنسانية، وجذورها موجودة في التربية الإسلامية الصحيحة بمفردات كثيرة، ولكن عندما نرسّخ الخطأ في نفس التربية الدينية، فإننا من جديد نقذف بهذا الإنسان في أتون التخلف، ونساهم في إعاقة حركة التنمية.
التربية المنغلقة:
فمثلاً عندما نرسخ في ذهن الطالب والطفل حديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، ماذا نتوقع حينها أن تكون مخرجات العملية التعليمية؟ إنسان محب للآخر مقبل على التنمية التي ستصب في مصلحة الجميع، أم يكون مفردة جديدة في سلسلة العوائق؟ زج مثل هذه الفكرة وبرداء مقدس ـ بغض النظر عن صحة الحديث أو ضعفه سنداً ومضموناً ـ سيربك ذهن الطفل أو الطالب، ولن يسعفه للموازنة بين الموقف من الآخر في هذه الحياة المليئة بالاختلاف والتنوع.
ولربما هذا ما يدفع بعض الشباب للاستفتاء والتساؤل: (إنني مسلم أو من المذهب الفلاني.. هل يجوز لي التبرع لبنك الدم ويحتمل أن يذهب هذا الدم لغير مسلم، أو لمن ينتمي إلى مذهب آخر؟!).. ما الذي يدفع هذا الشاب المتدين ليفكر بهذه الطريقة؟ أليست هي مسألة ثقافة وتربية؟
نموذج مقابل:
هذا نموذج وفي المقابل نموذج ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: (إن علي بن الحسين عليه السلام كان يطعم من ذبيحته الحرورية. قلت: وهو يعلم أنهم حرورية؟ قال: نعم). وهو سلوك متناغم مع قوله تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) سورة الحج:36، دون تقييد للإطعام سوى العنوان الإنساني.

تنمية الحقوق الشرعية:
مثال آخر على أثر العامل الثقافي على التنمية يرتبط بمصارف الزكوات والأخماس والكفارت وكل ما يعتبر من الحقوق الشرعية، فبعد غيبة الإمام المهدي عليه السلام اختلف فقهاء الإمامية في كيفية التصرف في الخمس، ونقل الشيخ المفيد جانباً من ذلك في كتابه (المقنعة) حيث قال: (وقد اختلف قومٌ من أصحابنا في ذلك عند الغيبة، وذهب كل فريق منهم فيه إلى مقال: فمنهم من يُسقط فرض إخراجه لغيبة الإمام، وما تقدم من الرُّخَص فيه مِن الأخبار. وبعضهم يوجب كنزَه، وتناول خبراً ورد أن الأرض تظهر كنوزها عند ظهور القائم مهدي الأنام وأنه عليه السلام إذا قام دله الله سبحانه وتعالى على الكنوز، فيأخذها من كل مكان...).
ولنا أن نتخيل استمرار سلوك الفقهاء وفق الفتويين الأولين.. ألم يكن هذا ليؤدي إلى أن نفقد كل الدور التنموي الذي يتوقع أن تقوم به موارد الحقوق الشرعية في المجتمعات الإسلامية؟ وأين هذا مما جاء في عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر: (وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج).. أي فليكن اهتمامك بالتنمية أشد من اهتمامك بجمع الضرائب.
فضائل أم روافد؟
ولكن للأسف نحن أحياناً نتعامل مع هكذا نصوص على أنها فضائل لهم عليهم السلام وكفى، ولا نتعامل معها
على أنها روافد ثقافية وتربوية، فالله سبحانه وتعالى لم يفرض الزكاة والخمس والكفارات وغيرها من عناوين العطاء المالي لتطهير النفس من البخل وحب الدنيا فقط، بل جعلها وسيلة تنموية مهمة ورافد حيوي لذلك.. أليس العامل الثقافي مؤثراً في تكوين هذه الرؤية وفي إصدار الفتوى؟
بالطبع فإن الفقهاء سرعان ما تجاوزوا هذا الرأي ولم يتفاعلوا معه كثيراً، ولكن يبقى أن الطموح في كيفية توجيه الحقوق الشرعية لتكون رافداً تنموياً لم يتحقق إلى الآن بالشكل المطلوب، فالحاجة للعمل المؤسسي أمر ملحّ، ومن الضرري أن تكون هناك مخرجات تنموية واضحة تقوم على دراسات اقتصادية واجتماعية وثقافية لكي تساهم في خير الإنسانية بصورة أفضل وأدق.
فلنصنع المستقبل:
إننا فعلاً بحاجة إلى أن نفعِّل الثقافة في الواقع ونربي المجتمع عليها، كما أننا بحاجة إلى تنقية الثقافة التي نقدمها للأجيال من الشوائب الفكرية ومن التعقيدات العصبية ومن تراكمات التخلّف، لأننا إذا مهدنا السبيل للإنسان في أن يصوغ شخصيته العلمية والتربوية على الأسس السليمة أمكننا أن نؤسّس لبيئة علمية تنموية رائدة تعمل على أنسنة الروح والشعور والإرادة، وعند ذلك تأتي صناعة المستقبل. ومن الضروري أن ندرك أن عملية النمو في أي بلد إنما تسير قدماً من خلال الوفاق الداخلي وتحسّس الجميع لمسؤولياتهم في حركة البناء العام للبلد. وبكلمة واحدة: إن عدم التنمية يعني الموت.. والتنمية غير السليمة تعني مولوداً معاقاً.