من آيات الحج ـ 3

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) المائدة:2.
تناولنا في الأسبوع الماضي تفسير هذه الآية الشريفة إلى قوله تعالى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ)، ويأتي الخطاب للمسلمين بعد ذلك بضرورة أن لا يبادلوا الذين منعوهم من المسجد الحرام بالمعاملة بالمثل في وقت سلطتهم عليهم، لأنَّ الله لا يريد لهم أن يكونوا معتدين ـ مثلهم ـ على حرية النّاس في الدخول إليه في حال كان منهم ذلك.
قاعدة عامة:
وهذه العبارة تمثل قاعدة عامة في الحياة في أجواء الاعتداء الذي يتعرض له المؤمنون، إذ لابد من التفريق بين الموارد الشخصية التي يملكون فيها حقّ الرد على المعتدي، وبين الموارد العامة التي وضع الله فيها للنّاس حدوداً، فإنَّه لا يجوز رد الاعتداء بمثله، كأن يضرب إنساناً قريباً لإنسان، فيرد بضرب قريب الضارب، لأنَّ الله يقول: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) الأنعام:164، إذ لا ذنب له. وهكذا يجب الوقوف عند حدود الله في حلاله وحرامه، بعيداً عن الانفعالات العاطفية التي تدفع إلى انتهاك الحرمات الّتي لا يجيز الله للنّاس أن ينتهكوها، وإن انتهك الآخرون حرمةً مماثلة.
التعاون على البر:
هذا هو الشعار الإسلامي للحياة والنّاس، المرتكز على البر الذي يمثل الخير في العقيدة والعمل، وذلك في ما توحيه الآية الكريمة: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَالْملائكة وَالكتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوي الْقُرْبَى وَالْيَتَامى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسآئلين وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) البقرة:177. ونلاحظ أن الآية اعتبرت القاعدة الفكرية العقيدية مظهراً من مظاهر البر، لأنَّ الانحراف عن الخط الصحيح، والابتعاد عن القاعدة الصلبة للفكر، يؤديان إلى اهتزاز الحياة وتحولها عن أهدافها السليمة، وينتهي بها ـ بالتالي ـ إلى الوقوع في قبضة الباطل والشرّ، لأنَّ بداية الشر فكرةٌ شريرة، كما أنَّ منطلق الباطل خاطرة فاسدة. وفي المقابل فإن الالتزام بالمنهج العقيدي الصحيح يحقق الخير للنفس وللآخرين وللحياة.
والبر أيضاً يكون في العمل في ما تحدّثت عنه الآية من صور ومصاديق. أمّا التقوى، فإنَّها الروح التي تمد الإنسان بالقلق الروحي الَّذي يدفعه إلى متابعة العمل بدقة، لئلا يخطىء هنا، وينحرف هناك، وينقلب على وجهه في نهاية المطاف، وبذلك يتحول القلق إلى عنصر إيجابي بدلاً من أن يسلمه إلى أجواء الضياع والشلل في الاتجاه السلبي. وقد طرح الإسلام التعاون كأساس لتحقيق البر والتقوى في حياة الناس، لأنَّ كثيراً من حالاتهما لا يمكن، من حيث المبدأ، تأديته بجهدٍ فردي، بل لا بُدَّ من تضافر الجهود المختلفة لإنجازه، لا سيما في المجالات الّتي يُراد منها بلوغ نتائج كبيرة.
التعاون السلبي:
الإثم والعدوان يهدمان الحياة ويضعانها في أجواء الضياع والقلق والضلال، ويحولانها إلى غابة لا تحكمها القوانين والشرائع، بل تتحكم فيها القوّة الغاشمة العمياء، ليكون الحق للأقوى بعيداً عن ميزان العدل الذي يجعل القوّة للحق، والضعف للباطل.
وأخيراً جاءت الدعوة إلى التقوى مقرونة بالتذكير بالصفة الإلهية الّتي تؤكد على أنَّه شديد العقاب في موضع النكال والنقمة، لتخفّف من اندفاعات النفس الذّاتية في خط الانحراف، فيواجه الإنسان الموقف بكثير من الشعور العميق بالنتائج المرعبة الّتي تنتظر السائرين على طريق الضلال بعيداً عن الله، ويتعرف كيف يتفاداها بالطاعة والسير على خط العبودية المستقيم في أفكاره ومواقفه له تعالى.