خطبة الجمعة ـ الثانية ـ 10 ذوالقعدة1432 ـ الشيخ علي حسن ـ بعنوان الفساد والتنمية


ـ (وَمِنَ النّاس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّه عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّه أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) البقرة:204-206.
ـ صورة معبّرة عن نموذج من النّاس، يكاد لا يخلو منه زمان ولا مكان.. النموذج المنافق الذي يستغل طيبة النّاس وصدقَهم، فيصوّر نفسه في صورة الإنسان الطيب الصادق، الذي يحمل في قلبه كلّ النوايا الخالصة والأفكار الخيّرة التي تبني للنّاس حياتهم نحو الأفضل، في قضاياهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والروحية، كل ذلك من أجل أن يستسلموا لكلماته الحلوة، وأساليبه الماكرة، ومواثيقه المؤكدة.
ـ أما حقيقته فهو إنسان شديد الجدال والعداوة للحق وللعدل. ولن يتعرف النّاس عليه إلاَّ من خلال التجربة المرة.
ـ وعندما تسنح له الفرصة، أو تستقيم له الأمور، ينطلق في الظلام وبقوة ليحقق مآربه الخبيثة التي تفسد واقع النّاس السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ليدمر بالتالي الحرث (الموارد الاقتصادية) والنسل (الموارد البشرية).
ـ هذه العلاقة الوثيقة بين الفساد وتدمير الحرث والنسل أكده تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2008 معتبراً أن الدلائل تشير إلى: (أن الفساد وضعف التنمية وثيقا الصلة ببعضهما البعض، ويعزز كل منهما الآخر).
ـ وعن العلاقة العكسية بين الفساد والنمو الاقتصادي يقول: (يعيق الفسادُ النموَّ الاقتصادي بطرق شتى: فهو يضعف الاستثمار الأجنبي والمحلي عن طريق زيادة فرص السعي للحصول على مزايا اقتصادية دون مراعاة مصلحة
المجتمع.. ويقلل الفساد من جودة البنية الأساسية العامة عن طريق تحويل الموارد العامة إلى استخدامات خاصة).
ـ وعن العلاقة بين الفساد وحقوق الإنسان يقول: (عندما تفشل حكومة إحدى البلدان في قمع أو احتواء الفساد فإنها تخفق أيضاً في تنفيذ التزاماتها بتعزيز وحماية حقوق الإنسان لمواطنيها.. ويؤدي انتشار الفساد إلى التمييز في الحصول على الخدمات العامة لصالح أولئك الذين بمقدورهم التأثير على السلطات لتحقيق مصالحهم الشخصية).
ـ ويتحدث أيضاً عن علاقة الفساد بنشوب النزاعات، يقول: (لا يساهم الفساد بالضرورة في حدوث النزاعات المسلحة، ولكن بمقدوره أن يؤدي إلى نزاعات عنيفة ويعزز اشتعالها).
ـ ألف مليار دولار تُدفع سنوياً ـ وفق هذا التقرير ـ كرشى من أجل تمرير المعاملات وغير ذلك، وكلها أموال تتجه في الاتجاه الخاطئ ولا تصب في المصلحة العامة، بل لجيوب خاصة يعود ضررها بالنتيجة على المجتمع.
ـ ما قدّمه التقرير يمثل جزء مما عبرت عنه الآية القرآنية بعنوان (لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ).
ـ تقرير منظمة الشفافية العالمية الصادر في هذا العام يفيد بأن 75 % من الدول تصنّف باعتبارها شديدة الفساد.
ـ عدد الدول العربية 22، وقد جاءت الكويت في المرتبة الثامنة بينها (كلما كبر الرقم كان مؤشراً سلبياً). وعلى المستوى العالمي تقع الكويت في المرتبة السادسة والستينن وهذا لا يعني بالضرورة أن الدول العربية التي في ترتيب أفضل هي فعلاً كذلك، لأن بعضاً منها تشهد حالة أمنية وقمع للحريات يصعب معها الحديث عن الفساد وفتح ملفاته، بينما مساحة الحرية في التعبير والحق الرقابي الذي كفله الدستور الكويتي للمواطن يضعها تحت الضوء، وهو مظهر من مظاهر العافية السياسية عندنا، ووسيلة من وسائل الحد من استشراء الفساد، يجب الحفاظ عليه، ولعله من أسباب تراجع مؤشر الفساد في الكويت خلال العام المنصرم من معدل 4.3 إلى 4.1.
ـ الفساد فساد، سواء وُجدت حرية في التعبير أم لم توجد.. وما قضية الإيداعات والإضرابات النقابية والطلابية والتجمعات الاحتجاجية إلا صور أو انعكاسات لذلك. ولكن المشكلة أعقد من مجرد ملفات فساد تُفتح بين حين وآخر:
1. فبعض من يفتح ملفات الفساد يستهدف إبعاد الأضواء عنه لأنه يمارس الفساد أيضاً، فيريد أن يُشغل الساحة عنه.
2. وبعض مَن يفتح هذه الملفات لديه إحاطة مسبقة بها، ولكنه يحتفظ بها للتكسب السياسي في الوقت الذي يراه مناسباً، أو لتصفية حسابات مع هذا الطرف أو ذاك، أو لتحقيق أجندات معينة، وهذا في حد ذاته صورة من صور الفساد، وهو ما يعقّد المشهد بشكل أكبر.
ـ نحتاج إلى كثير من الحذر في التعامل مع ما يثار حول قضايا الفساد، لئلا نكون أداة بيد المتصارعين في حلبة الفساد، وبتعبير أمير المؤمنين عليه السلام: (كن في الفتنة كابن اللبون، لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب). فالمهم أن نضع مصلحة الكويت فوق أي اعتبار شخصي أو فئوي، وإلا سنكون شركاء في هذا الوضع السئ الذي يجرون البلد إليه. والمطلوب أن تتضافر جهود المخلصين من أجل إعادة الهيبة للقانون وحرمة المال العام، والتوصيف الواضح لجرائم الفساد وعقوباتها، لئلا تبقى الأمور هلامية يجرّها كلٌّ لمصلحته تكسباً وإمعاناً في الفساد.