التداوي بالقرآن ـ القسم الأول - الشيخ علي حسن


من القضايا المثيرة للجدل مسألة الاستشفاء بالقرآن الكريم من الأمراض الجسدية، فهل هي صحيحة ومشروعة أم لا؟ وما أدلة ذلك؟ وهل من شروط للتداوي بالقرآن؟ وهل التداوي بالقرآن بديل عن التداوي بالطب؟ وغيرها من الأسئلة العديدة.
قانون العلية:
روى الكليني عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال: (أبى الله أن يُجري الأشياء إلا بأسباب، فجعل لكل شئ سبباً، وجعل لكل سبب شرحاً، وجعل لكل شرح علماً). وهذا القانون مهم جداً في فهم طبيعة الحياة ومجريات الأمور تبدلاتها، والتعامل مع كل ذلك بالصورة الصحيحة، ومن خلاله يمكن لأمة أن تتطور وتتقدم أو أن تتقهقر حضارياً.. فالإنسان ليس ريشة في مهب الريح، بل هو الذي يصنع التاريخ من خلال ما خلق الله ومن خلال اكتشاف القوانين التي أودعها الله في خلقه.
بالطبع هذا لا يعني إنكار التدخلات الغيبية والمعاجز والكرامات ولكنها تمثل حالات استثنائية نادرة في مقابل كل الحالات التي تسير وفق القانون الطبيعي، كما ولتلك الاستثناءات أيضاً قوانينها الخاصة.
القرآن شفاء:
هل يمكن الاستدلال بقوله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا) الإسراء:82 على شرعية التداوي بالقرآن الكريم من الأمراض الجسدية؟ يذكر العلامة الطباطبائي في تفسيره الميزان أنه كما أن للإنسان في جسمه صحة ومرض وشفاء، فكذلك له صحة روحية تتمثل في العقائد والأخلاق الفاضلة، وله أمراض روحية ترتبط باختلال العقائد والأخلاق، من قبيل ما في قوله سبحانه: (لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) الأحزاب:60. وله شفاء منها أيضاً. وبالتالي يعتبر العلامة الطباطبائي أن الآية القرآنية إنما تتحدث عن هذا النوع من المرض والشفاء منه، وأن القرآن يعالج ذلك، قال: (والقرآن الكريم يزيل بحججه القاطعة وبراهينه الساطعة أنواع الشكوك والشبهات المعترضة في طريق العقائد الحقة والمعارف الحقيقية ويدفع بمواعظه الشافية وما فيه من القصص والعبر والأمثال والوعد والوعيد والإنذار والتبشير والأحكام والشرائع عاهات الأفئدة وآفاتها. فالقرآن شفاء للمؤمنين).
القرآن رحمة:
ويضيف العلامة الطباطبائي أنه من خلال الرحمة ينوّر القرآن القلوب بنور العلم واليقين، ويحلّيها بالملكات الفاضلة والحالات الشريفة الزاكية. ويؤكد المعنى السابق بقوله: (فمعنى قوله [وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ] وننزل إليك أمراً يشفي أمراض القلوب ويزيلها، ويعيد إليها حالة الصحة والاستقامة فتتمتع من نعمة السعادة والكرامة). ويزيد المراد وضوحاً من خلال نفس الآية حيث تذكر دور القرآن في زيادة خسران الظالمين: (إن كفرهم بالقرآن وإعراضهم عنه بظلمهم يزيدهم خساراً على خسار ونقصاً على نقص، إن كانت عندهم بقية من موهبة الفطرة). والنتيجة المتحصلة مما سبق أن الآية القرآنية لا علاقة لها بالاستشفاء بالقرآن من الأمراض الجسدية.
طريق مختصرة:
قد يقول قائل أن في البين طريقاً مختصرة نتجنب من خلاله اللجوء إلى الأطباء وتناول الدواء كما في قول الخليل إبراهيم عليه السلام: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) الشعراء:80، فهذا يمثل الحالة الأرقى في تعامل المؤمن مع المرض الجسدي، والقرآن من سبل ذاك الطريق المختصر. وكلما ارتقى الإنسان إيمانياً، كلما كان الوصول للعلاج الإلهي المباشر أقرب سبيلاً. بل اعتبر البعض أن مراجعة الأطباء ينافي إخلاص التوحيد لله سبحانه.
ولكننا نجيب هؤلاء بأن ليس المراد بما في الآية الشفاء المباشر بعيداً عن الأسباب، بل هو بنفس معنى: (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) الشعراء:79، فهل كان يطعمه ويسقيه بصورة مباشرة أم بصورة طبيعية من خلال الأسباب والطريقة المألوفة كالرعي والزراعة والتجارة وغير ذلك؟ بالطبع هذا لا يعني أن نلغي دور الدعاء واللجوء إلى الله والتصدق وغيرها، ولكنها تأتي مع الأخذ بالأسباب الطبيعية للتداوي.
السيرة تؤكد ذلك:
وهذا ما تؤكده سيرة النبي وآله عليهم السلام، ولنلاحظ الخبر التالي المروي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (إن قوماً من الأنصار قالوا: يارسول الله إن لنا جاراً يشتكي بطنه، أفتأذن لنا أن نداويه؟ قال: بماذا تداوونه؟ قالوا: يهودي عندنا يعالج من هذه العلة. قال: بماذا؟ قالوا: يشق بطنه فيستخرج منه شيئاً. فكره ذلك رسول الله، فعاودوه مرتين أو ثلاثاً فقال: افعلوا ما شئتم. فدعوا اليهودي فشقّ بطنه ونزع منه رجرجاً كثيراً، ثم غسل بطنه، ثم خاطه وداواه، فصحّ، فأُخبر النبي بذلك فقال: ان الذي خلق الأدواء خلق لها دواء...). ويبدو أن كراهة النبي انصبت على أسلوب العلاج الذي كان غريباً بالنسبة إلى ذلك المجتمع، وإلا فإنه صلى الله عليه وآله وسلم كان بنفسه يتداوى ويأمر بالتداوي بالعلاجات الدارجة في البيئة العربية.
ومن هنا جئ بالطبيب النصراني لأمير المؤمنين عليه السلام ليشخّص علته ويداويه من جرح ابن ملجم، وأخذوا بقوله حين أكّد لهم بطريقته العلمية أن لا أمل في الشفاء من الجرح والسم.. وغير ذلك من النصوص التي تؤكد لجوءهم إلى الأطباء والأدوية للعلاج، وهم أولى من سواهم بلحاظ مقامهم عند الله أن يَدَعوا الاستشفاء بالأدوية والتشخيص بالوسائل الطبية ويلجؤوا إلى القرآن والدعاء دون سواهما.
أما النصوص التي تذكر التداوي بالقرآن فسنعالجها في الأسبوع المقبل بإذن الله تعالى لتكتمل بها الصورة.