أنا ربكم الأعلى! - الشيخ علي حسن

في القرآن الكريم صور عديدة لتضخم الأنا، سواء من الذين كانوا يحكمون في الأرض، أو من الذين كانوا يواجهون الحقَّ ورسلَ الله بالمواقف المتشنجة وردود الفعل العنيفة..حتى تصل بهم هذه الأنا المتضخمة الى مستوى وضع أنفسهم في مصاف الله سبحانه وتعالى كما فعل نمرود..قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ الَى الَّذِي حَاجَّ ابْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ان آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ اذْ قَالَ ابْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} البقرة:258..بل وحتى التعالي على الله جل وعلا: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ الَهٍ غَيْرِي} القصص:38..ليتجاوزوا بذلك أنا ابليس المتضخمة التي لم تصل أبداً الى هذا المستوى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ اذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} الأعراف:12..فمن الواضح ان كلامه يتضمن اقراراً بأنه مخلوق، وبأن الله خالقه.

ثلاث شخصيات:
في علم النفس يعتبر (تضخّم الأنا) حالة عصابية مرضية تتجمع فيها ثلاث شخصيات مختلفة هي: (النرجسية) و(التسلطية) و(الاحتوائية).
فمن الشخصية النرجسية يأخذ صاحب الأنا المتضخمة حاجته القسرية الى الاعجاب..أي انه يريد من الآخرين دائماً ان يعجبوا به بالصورة التي هو يريدها، وأن لا يتوقفوا عن المديح والاطراء.ولأنه يتظاهر بامتلاك قدرات فريدة، فان على الآخرين ان يتعاملوا معه على أساس أنه مميز، وأن تقديمه على أنفسهم هو استحقاق لا يستوجب حتى الشكر منه.
ويأخذ من الشخصية التسلطية انفعالاتها الغاضبة واندفاعيتها، وتصنيفها الناس بثنائيات، كتقسيم الناس اما الى صديق أو عدو، ومعسكر خير ومعسكر شر..وكذلك التصرف بالتعالي والعجرفة نحو من هم أقل منه منزلة.
ويأخذ من الشخصية الاحتوائية السعي الى السيطرة على الآخرين واحتواء وجودهم المادي والمعنوي وحتى أفكارهم، ولو بأساليب تمثيلية..وهكذا تتشكل هذه الشخصية المعقدة لتتحول الى وجود مفسد ومدمّر.

القذافي والامام علي:
قبل 25 سنة تقريباً سمعت من أحد الأصدقاء كان مع وفد قد التقى معمر القذافي يقول: (قال لنا القذافي في أثناء حديثه معنا: خبصتونا بالامام علي! وما هو الا طالب ملك، لم يُعطَ مُلكاً، ففعل ما فعل!!)..في الوقت الذي يدرك فيه أي منصف يقرأ للامام علي عليه السلام أنه قد أخمد كل طموح للأنا في نفسه في بداية تجليات الخلاف على الحكم وهو القائل: (لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي، ووَاللهِ لأسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ ولَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ الا على خَاصَّةً، الْتِمَاساً لأَجْرِ ذَلِكَ وفَضْلِهِ، وزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وزِبْرِجِهِ)..وعند تكالب الناس عليه ليقبل استلام الحكم، قال: {أَمَا والَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لا حُضُورُ الْحَاضِرِ وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ ومَا أَخَذَ اللهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ الا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ ولا سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا ولَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا ولَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ)..وعندما شهر البعض سيوفهم في وجهه قال: {وقَدْ قَلَّبْتُ هَذَا الأمْرَ بَطْنَهُ وظَهْرَهُ حَتَّى مَنَعَنِي النَّوْمَ، فَمَا وَجَدْتُنِي يَسَعُنِي الا قِتَالُهُمْ أَوِ الْجُحُودُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم، فَكَانَتْ مُعَالَجَةُ الْقِتَالِ أَهْوَنَ على مِنْ مُعَالَجَةِ الْعِقَابِ، ومَوْتَاتُ الدُّنْيَا أَهْوَنَ على مِنْ مَوْتَاتِ الآخِرَةِ)..حتى اذا بذل كل جهده في الاصلاح من أجل ردّهم عن موقفهم، فأبوا وبدؤوا بالقتال، قال: (اللَّهُمَّ انَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ ولا الْتِمَاسَ شَيْ‏ءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ ولَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ ونُظْهِرَ الاصْلاحَ فِي بِلادِكَ فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ وتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ).

أحرقوا الأرض بما فيها:
وفي المقابل انظر الى المشهد العربي خلال الأشهر الماضية، سواء في ليبيا أو غيرها، وتمعّن في انعكاسات تضخم الأنا..الشعوب تخرج جزعاً من الظلم والفساد والفقر، حتى ان بعضهم ليحرق نفسه احتجاجاً ويأساً من الحياة، لتُقابَل تلك الاحتجاجات السلمية بالقتل والتدمير واشعال نيران الحرب حتى يقول قائلهم: اذا أرادوا احراق البلاد فليكن..فهو مستعد ان يحرق البلاد من أجل ان يبقى هو في الحكم..لا احقاقاً للحق بل امعاناً في الباطل.
هكذا تتضخم الأنا فيصل الانسان الى مرحلة لا يرى فيها الا نفسه كالشمس التي تدور حولها الأفلاك لتسجد له وتسبِّح بحمده..في صورة متجددة لكلمة فرعون: {فَحَشَرَ فَنَادَى، فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} النازعات:23-24.

الصورة الحقيقية:
ولكن القرآن الكريم يؤكد ان الصورة الحقيقية لكل هذا المشهد الصاخب في بدايته: {أَوَلا يَذْكُرُ الانسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} مريم:67..وفي نهايته: {كَما بَدَأكُم تَعُودُون} الأعراف:29..ولن تعود هذه الأنا المتضخمة على صاحبها الا بالوبال: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ انَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ اثْمًا وَلَهُمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} آل عمران:178.

فتّش في نفسك:
ولما كانت هذه الأنا المتضخمة قابلة ان تظهر في كل واحد منا، فلنننظر الى أنفسنا بتروٍّ..لعلنا نجد لهذه الأنا المتضخمة وجوداً؟ قد لا تكون بمستوى أنا فرعون موسى أو فراعنة هذا الزمان..ولكنها متضخمة بالمقدار الذي نظلم من خلالها بالتطاول على الآخرين ومصادرة حقوقهم واستغلال امتيازاتنا البدنية أو العقلية أو الخطابية أو الوظيفية أو القانونية أو العرفية، من أجل ان نشبع متطلبات هذه الأنا السرطانية التي لن تهدأ وان أعطيت ما تريد، بل ستطلب المزيد والمزيد ولو ظلماً وافساداً: (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثاً، ولا يملأ جوفَ ابنِ آدم الا التراب).