أنفِق ما في الجيب !! - الشيخ علي حسن

سألني أحدهم عن الموقف الشرعي من تجارة الاستثمار بالذهب، وذكر قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) التوبة:34-34، وهو يتوجس خوفاً أن يكون بتجارته هذه من مصاديق الآيات السابقة، فالآية الأولى وإن بدأت الحديث حول الأحبار والرهبان، ولكن قوله: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) فيه حديث عن نموذج من نماذج الانحراف الذي تمثّل في سلوكهم وفي سلوك مَن سواهم.
وبالتالي فالسؤال المطروح: هل الآية بصدد تحريم مطلق الادخار واعتباره نوعاً من أنواع البخل وعدم الثقة بالله وكفر النعم وطول الأمل؟ أم أنها بصدد تحريم خصوص ادخار الذهب والفضة؟ أم غير ذلك؟
سؤال آخر:
وهكذا سألني أحدهم عن صحة الفكرة التي وصلته من أحد المشايخ بأن القاعدة الإسلامية في المال هي (أنفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب) وأن الادخار يتعارض مع هذه القاعدة.. إذاً ما هي دلالة الآيات؟ وعلى أي شئ تنطبق؟
اعتبر العلامة الطباطبائي أن الشرع الإسلامي لا يعارض أصل مسألة الادخار، وأن لا حد لهذا الادخار، ولكن الآية بدلالة كلمة الكنز التي تعني (الجمع مع تضمنها معنى الإخفاء عن العيون) إنما هي بصدد بيان حكم حالة معينة، وهي إخفاء المال عن الأنظار، والامتناع عن تحريكه في أجواء السوق التجاريّة، أو في مجالات الإنفاق العام الذي قد يتمثل في الحقوق الشرعية الواجبة، أو في ما يفرضه وليّ الأمر من إنفاقات طارئة بسبب ما يحتاجه المجتمع الإسلامي، ما يجعل من إخفائه مانعاً عن الاطلاع عليه للاستفادة من ذلك في مواجهة المشاكل الاقتصادية التي تحدث في المجتمع، قال: (فالآية إنما تنهى عن الكنز لهذه الخصيصة التي هي إيثار الكانز نفسه بالمال من غير حاجةٍ إليه، على سبيل الله مع قيام الحاجة إليه).
دلالة أوسع:
أما المرجع الراحل السيد فضل الله فقد اعتبر في تفسيره (من وحي القرآن) أن تفسير الآية بهذه الصورة سيجعل دلالتها محدودة جداً في حالات معينة قد لا تتكرر كثيراً في تصرف الأفراد، مما يفقد الآية دلالتها الواسعة التي تحاول من خلالها معالجة انحرافٍ عند الناس، فكم نسبة الأشخاص الذين يخفون أموالهم عن الأعين حباً للمال؟ والغالب في تصرف الناس أن حبهم للمال يدفعهم للاستثمار وتحريك المال تجارياً لزيادته.
ولذا اعتبر أن الآية تتحدث عن ظاهرةٍ عامة منحرفةٍ تتمثّل في أولئك الذين ينحرفون بالمال عن هدفه، ويعيشون الحياة للمال ويعتبرون جمعه قيمةً حياتيّة، بعيداً عن أيّ هدف كبير يتعلق بحياة الناس، الأمر الذي يدفعهم إلى أن يحصلوا عليه بالحق، أو بالباطل، كهؤلاء الأحبار والرهبان، ويستغرقوا فيه، كما لو كان هو الهدف للحياة، فيؤدي ذلك إلى أن يمنعوه عن المجالات العامة التي أراد الله للمال أن ينفق فيها، ممّا أمر الناس أن ينفقوه في سبيله.
حصيلة الرأيين:
على العموم، سواء فهمنا الآية بتلك الصورة أو بهذه، فإن الموقف الشرعي لا يتعارض مع أصل الادّخار، مادام أن الإنسان يقوم بوظيفته المالية في الإنفاق على نفسه وعياله وفي أداء مسؤولياته المالية تجاه الله والمجتمع، أو مادام أنه لم يحوّل المال إلى غاية وقيمة حياتية.
ولعله يمكن الاستشهاد بمفهوم قوله تعالى: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) الإسراء:29 للدلالة على ذات الفكرة، وهذا أيضاً ما تؤكده الحكمة المروية عن النبي وعلي والحسن عليهم السلام: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً) فهل يمكن لإنسان أن يعمل في الشأن المالي والاقتصادي كأنه سيعيش للأبد دون أن يدخر للطوارئ وللاستثمار وأمثالهما؟!
وأما النصوص من قبيل ما جاء في ذيل رسالة الإمام الرضا لابنه الجواد عليهما السلام: (فأنفق ولا تخش من ذي العرش إقتاراً) فيبدو أنها ناظرة إلى الكرم في العطاء، لا أنها تذم أصل الادخار.
الاستثمارات الكويتية:
وقد نهضت الكويت بعد الاستقلال ـ في سياسة حكيمة ـ بعدة مشاريع ضخمة إقليمية وقارية وعالمية ادّخرت فيها الأموال واستثمرتها للأجيال القادمة وللأزمات وغير ذلك، وكان لهذه المشاريع التأثير الإيجابي داخليا على المستوى الاقتصادي وبالتالي على القطاعات المختلفة بالبلد، وخارجياً على المستوى السياسي والعلاقات الدولية وحتى بمنظور إعانة الدول الفقيرة وإغاثة الملهوف والمحروم وغيرها من العناوين.
هذه الحركة المميزة للكويت والتي على الرغم من صغرها جعلتها في موقع مميز عالمياً لعقدين من الزمن تقريباً، هذه الحركة أخذت بالتباطؤ والتخلف كما هو واضح.. وفي عام 1997 عاشت الكويت أزمة اقتصادية خانقة مع نزول قيمة برميل النفط إلى 9 دولارات أو أقل، وبعد ذلك بعشرة أعوام عاش العالم أزمة اقتصادية لم يتعافَ منها بعدُ حتى بات الحديث من جديد عن احتمالات ظهور أزمة مالية عالمية جديدة قد تكون أشد وطأة على المديين المتوسط والبعيد.
ولكن للأسف مازالت هناك غفلة وهناك حالة من التراخي وهناك حالة من الانشغال بتوافه الأمور والقضايا الهامشية والفرعية في السلطتين التشريعية والتنفيذية، وسيأتي اليوم الذي تُعض فيه الأصابع ندماً إن لم تتم المعالجة الاقتصادية السليمة.. لا تنظروا إلى مستوى الرفاهية التي نعيشها اليوم.. فلننظر على الأقل إلى الهزات التي وقعت في الأسواق العالمية خلال الأسابيع الماضية، وإلى ما جرى في لندن ومدن بريطانية أخرى ولعل محركه الأساسي الوضع الاقتصادي الخانق، لنعرف ما هو الوضع الاقتصادي الذي قد يُقبل على العالم ككرة الثلج.. فهل من مدّكر؟!