خير من ألف شهر

ليلة القدر هي اللَّيلة المباركة كما عبَّر الله عنها (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) الدّخان:3-4، فهي (خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ) القدر:3.
لماذا القدر؟
وقد تنوَّعت الآراء في معنى كلمة القدر، فمنهم من قال إنَّ القدر هو الشَّرف والمنـزلة، وبعضهم ـ ولعلّ هذا هو الأقرب ـ إنّ القدر هو التّقدير، لأنّ هذه اللّيلة هي اللّيلة الّتي أرادت حكمة الله تعالى أن تجعلها اللّيلة الّتي ينظّم الله فيها للنّاس أوضاعهم في أرزاقهم، وفي كلّ أمورهم الخاصَّة والعامَّة، وفي عالم الصِّراع، وفي عالم الإنتاج، وفي عالم الإبداع، وفي عالم الأعمار. فالله سبحانه وتعالى هو المدبّر لهذا الكون، وهو القادر على أن يقول للشّيء كن فيكون، ولكنّ حكمته اقتضت أن يجعل إرادته في نطاق الزَّمن، ولذلك خلق الأرض والسَّماء في ستّة أيّام، وهو قادر على أن يخلقها في لحظة، أمَّا هذه اللّيلة، فإنَّها اللَّيلة الّتي أودع الله فيها الكثير من الأسرار الّتي تملأ كلّ ساعاتها، تماماً كما يضع الله الأسرار في المكان، فهناك مكان يعظّمه الله كما الكعبة، وفي الزّمان في بعض اللّيالي والأيّام، كيوم عرفة، وما إلى ذلك، كذلك أودع الله في هذه اللّيلة أسراراً روحيّةً تنظيميّةً سخيّةً عظيمة، تستوعب الكون كلّه، وتشرف على كلِّ قضايا الإنسان في كلِّ حياته، بحيث تحدِّد له أجله، وتحدِّد له رزقه وصحَّته وعافيته ومرضه وموقعه ونصره وهزيمته، فهي اللّيلة التي تدخل في عمق الوجود الإنسانيّ، لأنّ الله سبحانه عندما خلق الكون وخلق الإنسان، أودع فيه عنصر السببيّة: (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شيءٍ قَدْراً) الطّلاق:3، (إنّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر) القمر:49.
ولذلك، فإنّ الله جعل هذه اللّيلة اليتيمة في السّنة، جعلها خيراً من ألف شهر، وأراد أن يبيّن لنا أن حجم الزّمن لا يقاس بطبيعة ساعاته، بل بما يختزن من أسرار، وما يُقام فيه من أعمال، ومن مواقف وطاعات. فالمسألة إذاً هي أنّ الإنسان يستطيع أن يجعل من يومه شهراً، ومن شهره سنةً، لأنّ المسألة هي في النّوعيّة وليس في الكميّة.
عناية الملائكة بشؤون المؤمنين:
ونلاحظ أيضاً أنّنا في هذه اللّيلة، نعيش في الأجواء الّتي تتحرَّك فيها الملائكة، الَّذين حدَّد الله لكلِّ واحدٍ منهم وظيفةً ومهمَّة، وهم (عبادٌ مُكْرَمُون، لا يَسْبقُونَهُ بالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون) الأنبياء:26-27. وقد حدَّث الله عن الملائكة أنَّهم يستغفرون للّذين آمنوا، أي أنَّ الملائكة يطلّون على البشريَّة ويتابعون ما يقومون به من أعمال، وخصوصاً الملكان، ليستغفروا للّذين آمنوا وتابوا. ونلاحظ في آيةٍ قرآنيّةٍ ما يدلّّ على أنّ الملائكة هم أصدقاء البشر المؤمنين (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ) فصّلت:30-31، أي أنّ الإنسان في الدّنيا من الممكن أن يشتهي شيئاً ولا يحصل عليه، ولكن في الآخرة، كلّ ما تشتهيه النّفس سيحقّقه الله سبحانه وتعالى لك، (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ) فصّلت:31- 32، أي ليس من عندنا. وهكذا نجد أنّ الملائكة في الجنّة، يقومون بزيارات (وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ، سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) الرّعد:23- 24، وأيضاً في هذه اللّيلة، يقول الله سبحانه: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا) القدر:4.