الغايات الثلاث - الشيخ علي حسن


ثلاثة عناوين كبيرة تحدثت عنها الآيات القرآنية كغايات متحققة أو مرجوّة من وراء تشريع الصيام في رمضان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ان كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} البقرة:183-185.
وبالتالي فهذه الغايات هي:
أولاً، التقوى:
التقوى هي الدعوة التي يدعو الله اليها عباده في أغلب الآيات، لممارستها كأسلوبٍ تربويّ في نطاق العمل الانساني من خلال مراقبة الله والاحساس العميق بوجوده.ويمكن القول ان التقوى بمثابة التلخيص العملي لكلمة الاسلام، لأنها تشمل الجانب الفكري الذي يمثل العمق الداخلي للاسلام، والجانب العملي الذي يمثل الحركة الخارجية له، وذلك بأن ينطلق المسلم في فكره وعمله وعاطفته وعلاقته وتعامله مع الآخرين، من خلال رضا الله في أمره ونهيه في عملية التزام وانضباط، (فلا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك)، وأن يملك ارادته في مواقع حركة المبادئ في الحياة، بين يدي ربّه، فلا تسقط التزاماته أمام ضغط شهواته ومطامعه.

ثانياً، التكبير:
الملاحظ ان الشُّكر في الآية الأخيرة قُرن بالترجّي، تماماً كما التقوى، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، بينما لا نجد هذا الترجي في تكبير الله {وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ}. ولعل السر في ذلك ان تعظيم الله سبحانه متحقق في شهر رمضان من خلال الصيام، وذلك بالتزام عدد كبير من المسلمين بذلك، علاوة على الأجواء التي يعيشونها من خلال الصلوات المستحبة والحضور في المساجد وتلاوة القرآن والدعاء بما لا تشهده سائر الشهور، ومن خلال ذلك تتجلى صورة من صور تعظيم الله سبحانه، وان لم يخلص البعض في نيته، وان لم يحقق الكثيرون الشروط والأوضاع الحقيقية للصيام، فالتعظيم متحقق في الصورة الخارجية.تماماً كما في الحج حيث قال تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} الحج:37. فالصورة الخارجية لمناسك الحج واقبال الملايين عليها والحركة التوحيدية العظيمة المتحققة فيها، تتجلى من خلالها صورة تعظيم الله وتكبيره، وان لم يعش الكثيرون المفاهيم الحقيقية والكاملة للحج.
هذا بخلاف التقوى والشكر، فهما بحاجة الى ان يسعى المسلم وراء الصيام الحقيقي، الصيام الواعي، والصيام الذي يشترك فيه العقل مع القلب ومع الجوارح في صورة متكاملة ترتقي بالانسان ليحقق انسانيته من خلالها {لَقَدْ خَلَقْنَا الانسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} بعد ان اختار الكثيرون {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} التين:4-5.

التكبير الذاتي:
وكما ان تكبير الله سبحانه المترتب تلقائياً مطلوب من قبل جماعة المسلمين من خلال مظاهر صيام شهر رمضان، كذلك هو مطلوب ان يتحقق في النفس الانسانية باستشعار نعم الله تعالى المتحققة في شهر رمضان والمتمثلة في:
-1 خصوصية نزول القرآن الكريم في هذا الشهر، وما فيه من هداية وفرقان بين الحق والباطل.
-2 الهداية المتحققة للناس تكوينياً في وجودهم من خلال العقل والفطرة وغيرهما، وكذلك في ما يحيط بهم.
-3 من خلال التغييرات التكوينية التي تحدث في هذا الشهر العظيم كما في اغلال الشياطين وفتح أبواب الرحمة.
-4 بالهداية المتحققة من خلال الالتزام بتشريع الصيام فيه والبركات والفوائد المتحققة من وراء الصيام.
-5 برفع الحرج والضرر عن المريض والمسافر تخفيفاً وتيسيراً في التشريع.
-6 بجعل ليلة القدر التي هي أفضل الليالي على الاطلاق وخير من مجموع عمر الانسان في هذا الشهر.

قيمة التكبير:
ان ادراك كل هذه النعم العظيمة كفيل بأن يستشعر المسلم عظم الله، ليصغر عنده كلّ من عداه وكل ما عداه.
فلا يدعو مع الله أحداً، ولا يعطي المخلوق، مهما كان عظيماً أية صفة من صفات الله التي يختص بها كالخالقية والرازقية والقدرة المطلقة والعلم المطلق وما الى ذلك.ولا يعطي المخلوق مهما كان قوياً أي قدرة على حرفه عن طاعة الله سبحانه ومواقع رضاه.ولا يعطي الشهوات والملذات مجالاً لتكون السبب في الوقوع في الآثام والكون في مواقع غضب الله سبحانه.
ومن هنا كانت هذه الكلمة (الله أكبر) هي بداية الصلاة، وهي التي تتغير من خلالها أفعال المصلي من قيام الى ركوع الى سجود الى جلوس، ليشعر بعظمة الله سبحانه وتعالى وكبريائه الذي لا يدانيه فيها أحد، وكما روي عن علي عليه السلام في صفة المتقين: (عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم).

ثالثاً، الشكر:
الشكر هو تعبير عن احساس الانسان بانسانيته، لأن الانسان هو الذي يمتلك الشعور ويعترف بالجميل..كما أنه انعكاسٌ لمعرفة الله، اذ أننا نعرفه من خلال ما نكتشفه من أسرار خلقه في أنفسنا وفيما حولنا، وقد جعل الله ما في هذا الوجود من مخلوقات مسخراً للانسان: {أَلَمْ تَرَوْا ان اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} لقمان:20.وهكذا نتعرّف الله تعالى في علاقتنا به من خلال هذه النعم.
ولا يتحقق الشكر فقط من خلال الكلمة التي هي من شؤون اللسان، بل الشكر يتمثل في طاعة الله سبحانه وتعالى في كل ما أمرنا ان نفعله، والانتهاء عن كل ما نهانا عنه فنتركه.

الشكر والمسؤولية:
كما يتّصل الشكر أيضاً بتوجيه النعمة الالهيّة نحو الهدف الذي خُلقت من أجله وتحقّقت النعمة من خلالها للانسان.وهنا نشهد تزاوجاً بين مفهومي الشُكر والمسؤوليّة.ونلمح عند هذا التزاوج قول الامام جعفر الصادق عليه السلام: (انّ اللهَ لم يُنعم على عبد نعمةً الا وقد ألزمه فيها الحجّة من الله، فمَن مَنّ الله عليه فجعله قويّاً فحجّته عليه القيام بما كلّفه، واحتمال من هو دونه ممّن هو أضعف منه، فمَن مَنّ الله عليه فجعله موسَّعاً عليه فحجّته عليه ماله، ثمّ تعاهده الفقراء بعدُ بنوافله، ومَن مَنّ الله عليه فجعله شريفاً في بيته، جميلاً في صورته، فحجّته عليه ان يحمد الله تعالى على ذلك، وأن لا يتطاول على غيره، فيمنع حقوق الضعفاء لحال شرفه وجماله).
وربّما لأجل الجانب العمليّ للشُكر نجد هذا الاستهداف الابليسي لبني آدم موجهاً نحو خصوصية سلب الشكر عنهم كما جاء في الآية القرآنية: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} الأعراف:17.فهل سيكون صومنا في شهر رمضان من أدوات محاربة المخطط الشيطاني وافشال مساعيه؟