وادي العظام - الشيخ علي حسن - برمنجهام المملكة المتحدة


{أَلَمْ تَرَ الَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ان اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ، وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُواْ ان اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَالَيْهِ تُرْجَعُونَ، أَلَمْ تَرَ الَى الْمَلا مِن بَنِي إسرائيل مِن بَعْدِ مُوسَى اذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ ان اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا...فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِاذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ...فَهَزَمُوهُم بِاذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ...} البقرة:243 - 251 .
لاتبدو هذه الآيات القرآنية في الوهلة الأولى ذات صلة ببعضها البعض، الا ان البحث عن أصل قصة أولئك القوم الذين أماتهم الله ثم أحياهم قد ترشدنا الى الرابط بينها، والى الرسالة الأساسية التي تريد ان توصلها الآيات السابقة في مجموعها الى المسلمين.

النبي حزقيال:
احتكاك أهل يثرب ومن ثم المهاجرين باليهود جعل عندهم مخزوناً معرفياً ببعض ما في كتبهم من قصص، ولعل القرآن الكريم في الآيات السابقة كما في موارد أخرى عديدة يستحث هذا المخزون المعرفي الذي تختلط فيه الحقائق بشيء من الوضع والتحريف ليقدّمه خالصاً منها، وليثير من خلاله مفهوماً حياتياً عملياً..ولربما الى هذا تشير الآية 252: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَانَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}.
ففي سفر حزقيال قصة هذا النبي حين خرج في فترة السبي البابلي الى وادٍ ملئ بالعظام اليابسة لأناس قد ماتوا: (فأخرجني بروح الرب وأنزلني في وسط البقعة وهي ملآنة عظاماً..فقال لي: يا ابن آدم أتحيا هذه العظام؟ فقلت: يا سيد الرب، أنت تعلم.فقال لي: تنبّأ على هذه العظام..فتنبأت كما أمرت، وبينما أنا أتنبأ كان صوت، واذا رعش، فتقاربت العظام كل عظم الى عظمة، ونظرت واذا بالعصب واللحم كساها، وبسط الجلد عليها من فوق..فدخل فيهم الروح فحيوا وقاموا على أقدامهم، جيش عظيم جداً جداً).

الهدف من الموقف:
ثم يتجه هذا الموقف نحو تقديم الفكرة، فبلحاظ حالة السبي والتشرذم وتكالب الأمم على بني إسرائيل وضعفهم الذي جعلهم يعيشون حالة من اليأس في الخلاص مما هم فيه، جاء التأكيد الالهي ان الجماعة الميتة معنوياً يمكنها ان تعود الى الحياة من جديد تماماً كما عادت تلك العظام: (ثم قال لي: يا ابن آدم، هذه العظام هي كل بيت إسرائيل.ها هم يقولون يبست عظامنا وهلك رجاؤنا، قد انقطعنا.لذلك تنبّأ وقل لهم: هكذا قال السيد الرب، هاأنذا أفتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم يا شعبي..واجعل روحي فيكم فتحيون وأجعلكم في أرضكم، فتعلمون أني أنا الرب تكلمت وأفعل).
ثم يستمر الحوار مع النبي حزقيال ليذكّره بقصة النبي داود الذي جعله الله ملكاً على بني إسرائيل واستطاع ان ينقلهم من حالة التشرذم الى التوحد، ومن حالة الضعف الى مملكة قوية ذات نفوذ وسلطان عظيمين: (وداود عبدي يكون ملكاً عليهم ويكون لجميعهم راع واحد فيسلكون في أحكامي ويحفظون فرائضي ويعملون بها) الاصحاح:37.

عودة الى الآيات:
وبالعودة الى الآيات من سورة البقرة سنجد أنها مترابطة بالصلة ذاتها في ما جاء في سفر حزقيال، فالمسلمون كانوا يعيشون حالة من الضعف المعنوي بعد هجرتهم من مكة وشعورهم بتكالب المشركين عليهم وحصارهم اقتصادياً واجتماعياً من خلال تحركات قريش ضدهم في تحالفاتها مع القبائل المحيطة بالمدينة وبالطرق التجارية، فجاءت الآيات لتثير ذلك المخزون المعرفي حول قصة حزقيال النبي، لتقول لهم: تذكروا تلك القصة التي تعرفونها ودلالاتها في الاحياء المعنوي للمجتمع اليائس أو الضعيف، فهي تنطبق عليكم أنتم أيضاً، ولذا جاء الأمر بالقتال وعدم التردد فيه: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، وضرورة تقديم التضحيات: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ}، ثم ذكّرتهم الآيات بقصة طالوت وجالوت والنبي داود عليه السلام في صورتها الحقيقية كما أمر الله حزقيال بأن يذكّر قومه بها، ليكون مثالاً عملياً من التاريخ على الأمة التي تعيش الضعف، فتنتشل نفسها باللجوء الى الله سبحانه واستمداد القوة منه، ومن ثم الأخذ بأسباب القوة ومواجهة الظلم وتقديم التضحيات في هذا الطريق لتحقيق النصر في نهاية الطريق..انها سنة الله في الأمم وقوانينه التي لا تتغير، بل تنتظر من يحقق الشروط والمقدمات، لتقدم له النتائج التي ينتظرها ويأمل تحقيقها.{انَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا، وَنَرَاهُ قَرِيبًا} المعارج:6-7.